رسالة الرابطة الأسبوعية 34/08
السياحة الإنسانية سياحة ذوي الإحتياجات الخاصة
أفق وأسع واسع وميدان رحب، وتوجه قوي للتغيير نحو الأحسن، والأسهل في الإستخدام، والمتاح للجميع. تلك هي مواصفات البيئة العمرانية والبنى التحتية والخدماتية المرافقة لها التي تتناسب مع السياحة الإنسانية، التي أخذت تفرض نفسها وتتبلور مؤخرا في بعض الدول، لتشكل واقعا إنسانيا جديدا لما ينبغي أن تكون عليه البيئة العمرانية والخدماتية، لتكون مُيسّرة للسيّاح من ذوي الإعاقة. تلك هي سياحة ذوي الإحتياجات الخاصة، أو ما نحب ان نطلق عليه السياحة الإنسانية، بينما الترجمة الحرفية للمصطلح باللغة الإنكليزية هو "السياحة المتاحة" أو "السياحة الميسّرة". ظهر هذا المصطلح الحديث، وشاع في التداول، مع مطلع الألفية الثالثة كانعكاس وترجمة واقعية لـ"قانون منع التمييز ضد الإعاقة "، والذي يهدف للتقليل من التمييز الذي يعاني منه المعاقون. وهو القانون الذي تبنته، وبصيغ مختلفة، عدد من الدول، كالولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا والباكستان. ولانبالغ حين نقول إنه منذ ظهور هذا المفهوم وهو ينعكس إيجابيا، ليس على السياحة والسيّاح في الدول التي تبنته فحسب، ولكن بل على مجمل السكّان فيها، لما له من أثر في تسهيل حياتهم اليومية والمعيشية، بالإضافة إلى العوائد العائدات الإقتصادية والمنافع الاجتماعية، ولتكون البيئة الحضرية والريفية، وما يتصل بهما من خدمات، أكثر رفقا وتوافقا مع حاجات الإنسان. وبعبارة أخرى أكثر إنسانية. السياحة الإنسانية، ببساطة، هي مجموعة الخدمات والتسهيلات التي بمقدورها أن تمكّن الشخص ذي الإحتياجات الخاصة من التمتع بعطلته أو الوقت الذي يخصصه للترفيه عن نفسه، من دون مشاكل. وقد يكون الأشخاص ذوي الإحتياجات هؤلاء من المسنين، أو من ذوي الإعاقة الدائمة أو المؤقتة (نتيجة كسر أو عملية مثلاً)، أو ممن يحتاجون لحمية غذائية معينة، أو أن ممن لديهم فرط حساسية ويحتاجون لتسهيلات ومستوى معين من الراحة أثناء تنقلهم وإقامتهم. وينبغي التركيز على سياحة ذوي الإحتياجات الخاصة، أكثر من غيرهم، لحاجتهم الماسة للترفيه، لانهم أسارى الحالة الصحية، وينبغي مساعدتهم ودعمهم للتغلّب على التحديات التي تواجههم. ويظهر من هذا التعريف أن الموضوع يتعلق بقاعدة عريضة من السيّاح، تقدّر بحوالي 600 مليون شخص حول العالم، يضاف لهذا العدد من يهتم بهم من أهلهم وأوليائهم وأصدقائهم نظرا لحالتهم الصحية. إذن فالأمر يتعلق بشريحة تسويقية ضخمة في صناعة السياحة والسفر، تعتمد إمكانية تفعيلها واستثمارها على نضج القوانين والمواصفات التي ينبغي أن تعتمدها الدولة، بالإضافة إلى قطاع السياحة ككل والخطط والإستراتيجيات التي ينهجها لاستقطاب هذه الشريحة الكبيرة من السيّاح وتشجيع العاملين في هذا القطاع (كالمطاعم والنوادي والفنادق ووسائل النقل) على اتخاذ السبل التي تكفل تحقيق ذلك. وتعتبر الحاجة إلى تسهيل الخدمات السياحية للمعاقين مطلبا ملحا في القرن الواحد والعشرين، وهو ماعكسته قرارات منظمة السياحة العالمية في جلستها السادسة والخمسين، حيث كلّفت المسؤولين بالإهتمام بكافة المسائل التي من شأنها خدمة ذوي الإحتياجات الخاصة، وتقديم الدعم الفني لتشجيع هذا المفهوم في السياحة العالمية. ورغم أن هذه الإجراءات والقوانين الوضعية قد جاءت متأخرة، حتى في الدول التي تعتبر في خانة الدول المتقدمة، إلا إنها لم تكن كذلك في الديانات السماوية، فلم يكتف الإسلام بإقرار حقوق الإنسان منذ أكثر منذ 14 قرنا من الزمان، بل خص ذوي الإحتياجات الخاصة برعاية غير مسبوقة، ففي القرآن الكريم آيات كثيرة توصي خيرا بهذه الشريحة، ومنه قوله تعالى: "ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج" (سورة الفتح/17). أما السنة النبوية الشريفة، فليس أدل من قول النبي محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام: "الناس سواسية كأسنان المشط". وقوله عليه الصلاة والسلام: "هل تنصرون، وترزقون إلا بضعفائكم." وشهدت الحضارة الإسلامية، عبر تاريخها الطويل، عناية كبيرة بذوي الإحتياجات الخاصة، وفاءا بحقوقهم، التي كفلها لهم الدين السمح، فأقيمت دور الرعاية وبيوت الإيواء والتربية. ومهد كل ذلك الطريق لذوي الإحتياجات ليس لمواصلة حياتهم بثقة وإطمئنان اطمئنان في مجتمعهم الذي احتضنهم فحسب، بل وأن يبدعوا ويتفوقوا على أقرانهم الأصحاء في مختلف مجالات العلوم، كالمحدّث محمد بن عيسى الترمذي، الذي كان كفيفا لكنه كان من كبراء علماء الحديث، ومحمد بن سيرين، الذي كان يعاني من صعوبة كبيرة في السمع لكن ذلك لم يمنعه من أن يكون من أكبر مفسّري الأحلام. فهناك إذن حقيقة لابد من ترسيخها لتصبح قاعدة، وهي أن المعاقين يحق لهم ما يحق لغيرهم من الإستمتاع بالسفر والسياحة. وعلى المسؤولين عن قطاع السياحة اتخاذ خطوات لتغيير الممارسات والسياسات والإجراءات لجعل مختلف المرافق والخدمات متاحة للجميع. نعم، تثبت السياحة مرة أخرى أن لها القدرة على تغيير العالم من حولنا نحو الأفضل، وذلك في ميدان السياحة الإنسانية، مثلما أثبتته في ميادين أخرى، كسياحة السلام التي تطرقنا لها في العددين السابقين. والخطوات التي نتصورها لتحقيق هذا الهدف في أي دولة تتمثل بما يلي:
إن تبنّي السياحة الإنسانية من قبل أي دولة يعود بالنفع لها من نواحي كثيرة بالإضافة إلى المردودات الاجتماعية والسمعة الحسنة التي تجنيها دوليا، فالمردوات الاقتصادية لهذا النوع من السياحة كبيرة جدا. وقد أدركت الشركات والمؤسسات التي دخلت هذا المضمار هذه الحقيقة، فهناك تنافس كبير فيما بينها لاستقطاب هذه الشريحة التسويقية الضخمة. وتشير الدراسات إلى أن السائح من ذوي الإحتياجات ينفق في إجازته ما بين 30 إلى 200 بالمائة أكثر من السائح العادي، وعادة ما يكون مصحوبا بشخص آخر يرعاه، وهو ما يحقق سياحة مزدوجة في نفس الوقت. علما أن الكثير من السيّاح ذوي الإحتياجات الخاصة يفضّلون السفر في غير مواسم الذروة، لرغبتهم في الهدوء، مما يمنح المرافق السياحية زبناء على مدار العام. وكما يخلق هذا النوع من السياحة سوقا وصنعة متكاملة فهو أيضا يوفّر العمالة ويسهم بدعم الاقتصاد. وحين تكسر الحواجز والعوائق المادية أمام ذوي الإحتياجات الخاصة، فإن الكثير من الخيارات تفتح أمامهم لاختيار السياحة التي ينوون التمتع بها، كسياحة المدن، والسياحة الريفية، والسياحة التعليمية، وسياحة المؤتمرات، والسياحة الترفيهية، والسياحات الرياضية التي يرونها مناسبة لحالتهم. هذه إذن دعوة للجميع للمساهمة في هذا النوع الراقي من السياحة الإنسانية. والله ولي التوفيق |
||