This site uses cookies for analytics and personalized content. By continuing to browse this site, you agree to this use.
We have updated our Privacy Notice, click here for more information Acknowledged


رسالة الرابطة الأسبوعية 48

أهمية اعتماد قانون المنظمات غير الحكومية NGO أساساً للبعد الثالث في الإقتصاد العراقي

 إستكمالاً لرسالة الرابطة 47 نواصل الحديث فيما يخص موضوع آفاق عمل قطاع البعد الثالث.

لايخفى على المطلعين والخبراء في موضوع التخطيط ما يعنيه تشريع وتبني قانون المنظمات غير الحكومية على المستوى العملي والتطبيقي في مجمل مفاصل الحياة اليومية التي تمس الإنسان العراقي، كونه يعالج موضوعة غاية في الأهمية، تتمثل في تأسيس متكامل لقطاع البعد الثالث (قطاع المنظمات غير الحكومية) التي لاتعمل من أجل الربح المادي، إنما تقدم المنفعة والمصلحة العامة للآخرين منهجاً وغاية في عملها، وهي بذلك تعبر عن نبض الشارع وتسعى لتقديم القيم والمثل العليا لخدمة أبناء المجتمع بعيداً عن المصلحة الفئوية الربحية الضيقه في العمل.

وبناءً على هذا الأساس فالمنظمات غير الحكومية تشكل أساس وقلب المجتمع المتحضر ممثلاً بمنظمات المجتمع المدني، ويعبر ويعكس مدى إتساع وجودها وإنتشارها وتنوع أعمالها وفاعلية أدائها في أي بلد مدى رقيه وتقدمه، في نفس الوقت الذي ينعكس بالإيجاب على رفاهية أبنائه ويعزز التلاحم بين مكوناته المختلفة ويعزز الشعور بالمواطنة وحب البلد.

وهو بحق (القطاع الثالث) يعزز الاقتصاد الوطني جنباً إلى جنب مع القطاع العام والقطاع الخاص، وذلك من خلال النشاطات والأعمال التي يقوم بها، والتي تتسع لتشمل كل نواحي الحياة الإقتصادية والإجتماعية والبيئية والإنسانية، كما وتستوعب الأيدي العاملة وتساهم في القضاء على البطالة، في نفس الوقت الذي تحسّن فيه واقع ونوعية حياة الناس، وتلعب دورها الحيوي كجهة مستقلة تتمتع بصفات: المهنية، الرقابية، الرصدية، الإقتراحية، لمسيرة المجتمع الذي تنتمي اليه.

إن الرؤيا الطموحة لهذا البعد الحيوي الذي نتمناه للمنظمات غير الحكومية تقتضي التوصيف الدقيق والشرح لمختلف عناصره ومرتكزاته الفكرية، التي تهيء الأرضية المناسبة نحو الخطوات التأسيسية والتشريعية القانونية التي تحمي وجوده وتتكفل بإيجاد المناخ الذي يضمن استمراره وازدهاره. نلخصها بالنقاط الاتية:

 

أولاً: ما هي منظمات المجتمع المدني؟ 

التعريف الإجرائي الذي تعتمده رابطة المبرات العراقية لتوضيح مفهوم المجتمع المدني هو: (مجموع التنظيمات التطوعية المستقلة ذاتياً، والتي تملأ المجال بين الأسرة والدولة، وهي غير ربحية تسعى إلى تحقيق منافع أومصالح للمجتمع ككل، أو بعض فئاته المهمشة، أو لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة بقيم ومعايير الإحترام والتراضي والإدارة السلمية للإختلافات والتسامح وقبول الآخر). وهو التعريف الذي أعتمدته الموسوعة العربية للمجتمع المدني.

 

ثانياً: ما هي أنواع المنظمات التي يمكن ان تشكل قطاع البعد الثالث ممثلاً بمنظمات المجتمع المدني؟

بإعتماد التعريف أعلاه يمكن أن تنضوي العديد من المنظمات غير الحكومية، التي يفترض ان تتمتع بالإستقلالية وأستهداف المنفعة العامة مثل: الجمعيات الخيرية (المبرّات)، الجمعيات التعاونية، المنظمات المجتمعية، منظمات الإقتصاد الإجتماعي، النقابات، الإتحادات والمنظمات الدينية، منظمات التعاون المشترك والدعم الذاتي، المؤسسات الثقافية، منظمات حقوق الإنسان، كما يمكننا النظر للجامعات والمعاهد التعليمية والمستشفيات ودور الرعاية وملاجئ الإيتام وغيرها من المؤسسات الخدمية على إنها تندرج ضمن المنظمات غير الحكومية التي لاتنشد الربحية، طالما لم تكن إدارتها مرتبطة بصورة مباشرة بمؤسسات الدولة وطالما لايعتمد تمويلها كلياً على وزارة المالية العراقية، أو ميزانية الدولة، كما أن الرسوم التي تتقاضاها (إن وجدت) تكون رمزية لتغطية نفقاتها ومتطلبات إدامتها وتطويرها فقط، أي ليست ربحية. وهناك الكثير من المنظمات التي لا يمكن أن تحصر نشاطاتها أي تحديد أو حدود تقع في تبويب قطاع البعد الثالث.

 

ثالثاً: ماهي الأدوار التي يمكن ان تلعبها منظمات المجتمع المدني؟

يتضح من التنوع الكبير في منظمات المجتمع المدني أعلاه، الآفاق الواعدة للأدوار والنشاطات التي يمكن أن تتصدى لها في خدمة المجتمع، كتقديم المساعدات الإنسانية ومشاريع الإغاثة، مناصرة قضايا حقوق الإنسان والتوعية بها، عمليات تأهيل المناطق السكنية وإعادة توطين المجموعات البشرية، الأعمال الخيرية بكل أنواعها، الأنشطة التعليمية والصحية والثقافية التي ترتقي بهذه الخدمات والمنافع، عمليات حماية البيئة والتوعية بها، عمليات المحافظة والصيانة للممتلكات المختلفة، الإعمار الإقتصادي والتنمية المستدامة، الترويج للممارسات الحضارية والديمقراطية، تطوير المجتمع المدني، الترويج للعدالة والمساواة بما يضمن تكافئ الفرص بكل ميادين الحياة، كالعمل والتعليم والصحة، سواء بين الجنسين أو لمختلف الشرائح الإجتماعية ولمختلف المناطق الجغرافية في ربوع الوطن ، رعاية ودعم ذوي الإعاقة مادياً ومعنوياً وتأهيلهم للحياة. وأي نشاط آخر غير ربحي يخدم المصلحة العامة.

 

رابعاً: هل ان منظمات المجتمع المدني التي تؤسس قطاع البعد الثالث لها جذورها التاريخية الأصيلة في مجتمعنا أم إنها مفهوم مستورد؟

ان منظمات المجتمع المدني لها جذورها وتاريخها العريق في حضارتنا الإسلامية، والمسجد في مقدمة هذه المؤسسات الموروثة، فهو عمل مدني بأمتياز، يقوم على المبادرة الفردية أو الجماعية التي تتسم بالطوعية والإستقلالية والعطاء من دون مقابل مادي، تضاف لهذه السمات الوظائف التعددية التي كان ولايزال يقوم بها المسجد، فالصلاة وإقامة الشعائر الدينية ما هي الا واحدة من وظائفه، إلى جانب الوظائف الإجتماعية والتعليمية والإرشادية وغيرها مما فيه مصلحة العوام.

من هذا يتضح إن إنتماء ونشأة المؤسسة المسجدية هو لخدمة المجتمع والأمة وليس للسلطة. وكان هناك تاريخياً مؤسسات متنوعة تدور في فلك المسجد لها نفس سماته (التطوعية، الإستقلالية، العطاء دون مقابل مادي) كالمدارس التي كانت تشكل قسماً داخلياً في المسجد وخاصة في المساجد الجامعة ثم أستقلت عنها، وتطورت وأصبحت معاهد وجامعات. كذلك ظهرت مؤسسات الرعاية الصحية والإجتماعية للأيتام وكبار السن والمنقطعين والفقراء، وظهرت أيضاً مؤسسات يغلب عليها الطابع الثقافي والترفيهي كالمكتبات ورعاية الحيوانات والمحافظة على البيئة، وفق منظومة أتسمت بالتلقائية واللامركزية في معظم مراحل تطور الدولة العربية الإسلامية القديمة. وقد كان الوقف الخيري بالإضافة لمختلف انواع الصدقات والتبرعات هي المصادر الأساسية في تمويل هذه المؤسسات. وإستمر هذا الحال في معظم الدول العربية حتى ظهور الدولة الحديثة مع بداية القرن التاسع عشر، وأدى ذلك الى تراجع أداء مؤسسات القطاع الأهلي/ المدني بصيغتها الموروثة، خصوصاً مع وضع نظام الوقف الخيري تحت سيطرة الإدارة الحكومية. لكن هذه المؤسسات عادت للظهور في ظل الدولة العربية حديثة الإستقلال، وهي الفترة التي يؤرخ لها بالخمسينات والستينات من القرن الماضي، بأشكال وصور مختلفة، وتطورت إلى ما هي عليه في يومنا الحالي، لكنها لم تتبلور وترتقي لتحقق الإستثمار الشامل والأمثل لطاقات وتطلعات المجتمع الذي ندعو ونطمح اليه.

 

 خامساً: اذا كان لمنظمات المجتمع المدني جذورها التاريخية الاصيلة فلماذا هذا اللبس في المفهوم؟

في أحيان كثيرة جرى توظيف مفهوم المجتمع المدني بمختلف الدول العربية بشكل خاطئ أدى إلى تأجيج الصراع السياسي الداخلي نتيجة الجهل بأبعاد هذا المفهوم الإنساني، أو سوء توصيفه من قبل من يريد التحكم بكل مجريات الأمور. بالإضافة إلى شكوك الدولة خصوصاً تجاه مصادر التمويل الخارجية، من المساعدات الأجنبية للجهات المانحة التي رأت فيها نوع من إنتهاك السيادة أو إنها تصب في خانة الأجندة الخارجية الخفية، لذلك عمدت إلى وضع القيود والمراقبة وشرط الموافقة المسبقة وما إلى ذلك من إجرائات، قد تكون محقة فيها، ففي أحسن تقدير يمكن القول إن أولويات وإختيارات جهات التمويل الأجنبية قد لا ينسجم مع أولويات ما تراه الدول المتلقية من إحتياجات مجتمعها المحلي الحقيقية، وهي تملك فرض شروط الإنفاق وأوجهها.

هنا تنبع الحاجة الماسة لوضع النقاط على الحروف من خلال إتبعاع المنهج الصحيح والتوصيف الدقيق لأبعاد القطاع الثالث والنأي به عن كل ما قد يشوه صورته وسمعته، وجعله بعداً قيمياً خالصاً بعيداً عن المصالح السياسية والفردية. سواء كان ذلك على المستوى الداخلي للدولة أو على المستوى العالمي، إذ لايمكن أن يشرع ويرخص للدول أو الجهات والمؤسسات المانحة أن تفرض أجندتها السياسية أو برامجها التي تحقق مصالحها لقاء ما تقدمه من أموال أو مواد عينية أو خدمات يفترض إنها إنسانية، فإن ذلك سيكون له أشد الضرر على مصداقية هذا القطاع وعلى مفهوم عولمة عمل الخير إن سُمح بذلك أو تهاونا في قبول جزء منه. ولا نريد أبداً أن يكون العمل الخيري رهينة شروط الخارج وقيود الداخل.

 

إذن هناك حاجة كبيرة لزيادة الوعي العام بأعمال ونشاطات هذا القطاع على المستويين المحلي والعالمي والممارسات الصحيحة في الأداء والتقييم لمردوات العمل، بل لانبالغ إن قلنا أن هناك جهلاً كبيراً في هذا الميدان حتى بالنسبة للنخب المثقفة.

إن طموح رابطة المبرّات العراقية أن يكون قطاع البعد الثالث منتوجاً وطنياً بالدرجة الأساس، فهناك طاقات كامنة في الشعب العراقي المحب للعطاء، وهناك الإمكانات والموارد المالية التي انعم الله جل وعلى بها على دولة العراق، وأهله. إن العنصر المهم في هذه المعادلة هو التنظيم وتسخير الموارد والإمكانيات وروح العمل التطوعي الذي يمتاز به المجتمع العراقي ونخبه المتميزة لتصب في خانة العطاء. 

إن الرؤيا الواضحة والفهم الصحيح لمصطلحات وآفاق عمل منظمات المجتمع المدني هو السبيل القويم إلى وضع حجر أساس البعد الثالث في الإقتصاد العراقي.

أن تفعيل المنظمات الغير حكومية وإطلاق يدها سيعيد وبشكل كبير بناء ومداواة المجتمع العراقي ويعيد خلق القيم الإنسانية وزرعها في النفوس وفي النشئ الجديد لنحقق للعراق وشعبه المكانة التي يستحقانها.

مما سبق نحب أن نبيّن بأن رؤيتنا هي بكون التشريع الخاص بالمنظمات غير الحكومية، هو ما يُسهّل عملها ويخرجها من البيروقراطية التي أنهكت معظم مؤسسات الدولة، ولكن لشدة تفاجئنا رأينا أن مسودة القانون المقترح للمنظمات الغير حكومية، بأنه قانون يربطها بمؤسسات الدولة بشكل كبير ويجعل منها مؤسسات حكومية من حيث إرتباطها لا بل في بعض الحالات تكون التعليمات معقدة أكثر من المؤسسات الحكومية، كما وجدنا إنه ينظر للمؤسسات الغير حكومية بأنها جزء بسيط في المجتمع غير ذي أهمية وبأنها طرق للثراء الغير مشروع أو للتهرب من الضرائب، وبالتالي فقد شرعت قانوناً رقابياًَ يعتمد مبدأ الشك في نيّة المنظمات غير الحكومية.

عليه، نرجو من المشرّع العراقي والأعضاء في البرلمان، أن يعيدوا النظر في مسودة القانون الجديد قبل إقراره، وأن يقيموا الندوات والحوارات المفتوحة مع المنظمات الموجودة حالياً والمسجلة ضمن دائرة المنظمات الغير حكومية، والقائمة في العراق أو خارجه والتي هدفها مصلحة العراق والفرد العراقي. إن هكذا ندوات وحوارات من شأنها أن تقود إلى تشريع جديد يخدم المواطن العراقي بالدرجة الأساس ويعطي قطاع البعد الثالث دوره الذي يستحقه.

 

لابد للقوانين من تفعيل النشاطات لاتكبيلها

سنواصل بإذن الله في رسالة العدد القادم مناقشة موضوع قانون المنظمات غير الحكومية وآفاق عمل قطاع البعد الثالث.

والله ولي التوفيق

 


A S Shakiry

إتصل بنا