This site uses cookies for analytics and personalized content. By continuing to browse this site, you agree to this use.
We have updated our Privacy Notice, click here for more information Acknowledged

احياء الصفيح في الناصرية حاضنة للصخب والعنف.. والفقر
27/05/2008

 


 

محمد الكاظم/ نيوزماتيك/ الناصرية

نباح كلب سائب، ونهيق حمار يجر عربة، وصراخ صبية يلعبون بالوحل، وطنين ذباب يتجمّع على قاذورات الحي، وصراع مع الجارات على سطل ماء. هذا هو عالم رباب، 35 سنة، وهي أم لأربعة أطفال تسكن في حي التنك، أحد الأحياء العشوائية التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة في محيط مدينة الناصرية، 380 كم جنوب بغداد.

تقول رباب لـ"نيوزماتيك" أسكن هذا الحي منذ خمس سنين، لأنني لا املك منزلا يأويني مع أولادي الصغار، وأتمنى أن يزول عني شبح هدم الغرفة الوحيدة المبنية من الصفيح والطين، التي نعيش فيها".

وتضيف رباب "لا مُعيلَ لي، وأعيش على إعانات المحسنين، لكني أشعر بالخوف من أن تقوم الحكومة بإزالة الغرفة التي أعيش فيها مع أطفالي، كل ما أتمناه هو أن أتملك الأرض التي أقيم عليها".

رباب واحدة من آلاف المواطنين الفقراء والعاطلين الذين حاولوا بعد التغيير السياسي عام 2003 وانهيار الدولة، الحصول على مساحة صغيرة من الأرض ليشيدوا عليها غرفة أو غرفتين من الصفيح والطين لإيواء أولادهم. كان هناك نحو مليوني شخص في الناصرية يعانون مشكلة السكن. وسرعان ما تكاثرت البيوت وغدت أحياء كاملة يطلق عليها أسماء: حي التنك، حي الطناطلة، حي العدس، حي الدوك، حي زراب. أسماء لتجمعات فقيرة نشأت تحت مسمى "الحواسم" غير مسجلة في خرائط البلدية.

يقول حميد كطن، 65 سنة من حي التنك، "نحن ستة عشر شخصا نسكن هاتين الغرفتين، وأولادي وأحفادي عاطلون عن العمل، فمن أين نأتي بالإيجارات؟"، ويضيف ساخراً "معيلنا الوحيد هو عباس". وعباس هو طفل في التاسعة يبيع أكياس البلاستك في السوق القريب.

وتقول فاطمة، 33 سنة، ابنة حميد، وهي تحمل على رأسها إناء ماء ملأته من حنفية تبعد مئات الأمتار إن "الحكومة تقول إنكم متجاوزون، ولن نعطيكم الماء والكهرباء، لذلك تخلو هذه الأحياء من أي نوع من أنواع الخدمات".

وتطبيقاً لمبدأ "الحاجة أم الاختراع"، أقدم أهالي حي التنك على ثقب أنبوب ينقل المياه إلى بيوت الأغنياء في حي الإدارة المحلية، أحد الأحياء الراقية في الناصرية، ونصبوا عليه عددا من الحنفيات، وصارت النساء تملأ الأوعية المعدنية ثم تنقلها مسافات بعيدة، لاستخدامها في منازل الصفيح تلك.

"نيوزماتيك" تجولت في حي التنك الذي يضم حوالي 150 بيتاً ولاحظت خلو العديد من تلك المنازل من الكهرباء، فيما قام بعض أصحاب المنازل الواقعة بالقرب من خطوط الكهرباء بربط أسلاك ليوصّل النور إلى بيته.

النوم مع الشيطان

حي الطناطلة هو الآخر مثال على بؤس الحياة وقسوتها، فالحي يقوم شرق مدينة الناصرية، وسكانه يشترون الماء من صهاريج وعربات تجرها حمير، ويعاني أغلب سكانه من البطالة، ومعظم سائقي سيارات الأجرة في الناصرية لا يعرفونه، فمن غير المعتاد أن يستقل سكان ذلك الحي الفقير سيارة أجرة، فهم يستعينون للوصول إلى المدينة بالعربات التي تجرها الحمير والدراجات الهوائية. وبسبب بُعدهِ عن المدينة وإنشائه على أرض كانت في الأصل مقبرة، جعل الأهالي يسمونه "حي الطناطلة" أي الأشباح باللهجة المحلية.  

ساجت عبد النبي، 45 سنة، أحد سكان الحي، يقول لـ"نيوزماتيك" "قضيت تسع سنوات في معسكرات الأسر أثناء الحرب العراقية الإيرانية، 1980-1988، وحين عدت إلى الوطن أعطوني مكافأة قدرها خمسون ديناراً، تعادل الآن ثمن سيجارة واحدة، ولم يسأل عني أحد بعد ذلك، وقد اضطررت للسكن في حي الطناطلة في غرفة واحدة مع زوجتى وابنتي".

وعن حقيقة وجود الأشباح في الحي، يقول سعود خلف، 38 سنة، وهو أب لتسعة أطفال، "أنا مستعد للنوم مع الشيطان بشرط أن تكون عندي غرفة".

خلف الذي يشتغل عامل بناء تارة ومنظف سيارات تارة أخرى، طالبَ الحكومة بتمليكه مساحة الأرض التي بنى عليها غرفتين ومطبخا من البلوك، وهو طابوق إسمنتي رخيص الكلفة، دون أن ينسى مقارنة بيته ببيوت بعض الأثرياء الجدد بقوله "يقولون لي كل يوم إن البلدية ستزيل هذه الأحياء، أنا تجاوزت على خمسين متراً لبناء مسكن لعائلتي، وغيري يتجاوز على مليارات الدنانير من خزينة الدولة ليبني بيتاً شرعياً بطوابق متعددة".

 ويتساءل خلف : "فمن منا هو الحواسم؟"، في إشارة إلى بعض المنازل الحديثة التي بنيت مؤخراً في عدد من الأحياء الراقية من مدينة الناصرية، والتي تصل قيمتها إلى مليون دولار أميركي، ويعود بعضها لتجار ومسؤولين حكوميين وسياسيين ومقاولين.

وتطلق مفردة الحواسم على الفترة التي أعقبت سقوط نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وما شهدته من عمليات نهب وسلب، أتاحت للبعض الإثراء بصورة غير مشروعة بعد أن نهب مؤسسات الدولة، والمصارف والمعامل، علما أن تسمية الحواسم قد أطلقها النظام السابق، لوصف الحرب مع قوات التحالف.

أحياء للعدس أم للعنف 

الأحياء العشوائية تشترك مع بعضها بوجود الكلاب السائبة التي تملأ المكان، وبوجود مستنقعات الماء الآسن، والعربات التي تجرها الحمير، والمساكن المبنية بخليط من المواد، طابوق وطين وخشب وصفيح وعلب سمن مملوءة بالطين وأي مادة أخرى تصلح للوقاية من الشمس.

ومن أشهر الأحياء العشوائية في جنوب مدينة الناصرية حي العدس.

يقول خميس داغر، 55 سنة، إن "الحي سمي بهذا الاسم لأن سكانه فقراء لا يتناولون في طعامهم سوى العدس" الذي يوزع ضمن مفردات البطاقة التموينية، وعلى هذا الأساس ابيضا تمت تسمية "حي الدوك" لأن أهله لا يتناولون سوى "الدوك" وهو الخبز المقلي بالزيت. أما "حي الداوي"، شمال المدينة، فقد أخذ أسمه من مفردة شعبية تعني الفقير، فالداوي هو من لا يملك شيئاً.

و"حي زراب" فقد اشتهر بهذا الاسم لأن سكانه المعدمين أقاموا أكواخهم دون أن يجدوا ضرورة لبناء مراحيض ملحقة بها، فهم يقضون حاجتهم في العراء لذلك انتشرت الروائح الكريهة ما جعل هذا الحي يحظى بأسوأ اسم يمكن أن يسمى به حي سكني.  

الكاتب الصحفي حسن سبهان يقول لـ"نيوزماتيك" إن "الفقر وسوء الأوضاع المعيشية في مثل هذه الأحياء ساعد على أن تكون بؤرا للعنف، فأغلب المسلحين كانوا من سكنة هذه الإحياء".

 ويدعو سبهان إلى تفريغ شحنة العنف لدى سكان الأحياء العشوائية بتمليكهم قطع الأراضي التي بنوا عليها بيوتهم البسيطة، وتوفير فرص عمل للعاطلين.

وكانت مدينة الناصرية شهدت الشهر الماضي معارك بين القوات الحكومية وعناصر جيش المهدي راح ضحيتها أكثر من مئتي قتيل وجريح.

مدير دائرة بلديات ذي قار المهندس محسن هديب قال لـ"نيوزماتيك إن "هذه الأحياء العشوائية غير قانونية، وتعارض التصميم الأساسي لمدينة الناصرية، وقد بنيت على أراض مملوكة للدولة في فترة كانت فيها الدولة منهارة، كما أن وجود مثل هذه الأحياء يعرقل عمل بعض المشاريع، فضلاً عن كونها ظاهرة غير حضارية، لكن هناك جوانب إنسانية لابد أن تراعى في حل المشكلة".

مدينة على الرصيف

في منتصف التسعينات من القرن الماضي عاد أحد الأدباء المغتربين إلى الناصرية، مدينته الأم، في زيارة قصيرة بعد غربة امتدت لعقود خارج العراق، وكان أول انطباع خرج به من زيارته للناصرية قوله "يا الهي ..المدينة على الرصيف"، فقد انتشرت الأسواق التي يقيمها الفقراء والعاطلون عن العمل لبيع أي شي، سجائر، كعك، خضروات، ملابس مستعملة وكل شيء تقريباً.

وبالفعل دفعت الظروف الاقتصادية المتردية العديدين إلى امتهان البيع والشراء على الأرصفة، ووجد العديد من الفقراء في هذا العمل ما يسد رمقهم، وانتشرت البسطات في كل مكان، واليوم يعمل العديد من سكان الأحياء العشوائية وغيرها في البيع على الأرصفة.

محمد براك، 23 سنة، يبيع عُدَد البناء على عربة خشبية يقول لـ"نيوزماتيك"، "أحصل على قوت يومي من هذه العربة، أنا أعرف إنني متجاوز على الرصيف، لكنْ أعطوني عملا لأعيش منه وسأترك العربة".

قيس ياسين، 26 سنة، يبيع الحلوى على عربة مجاورة قال "استغرب من المسؤولين هل يتصورون أننا سعيدون بالعمل في الشارع؟"، ويضيف أن "الحاجة أقوى منا، وعندي اثنا عشر شخصاً في البيت، لابد أن يأكلوا".

يذكر أن حملات لرفع التجاوزات تنفذها بلدية الناصرية بين فترة وأخرى لإزالة الأحياء والأسواق، الأمر الذي يثير غضب أولئك الفقراء. وكثيرا ما تستعين البلدية برجال الشرطة لمصادرة عربات الباعة وتحطيم منازل المتجاوزين. وقد أنشأت محافظة ذي قار سرية لرفع التجاوزات، وهي وحدة من الشرطة مهمتها مطاردة الباعة والمتجاوزين على الأرصفة وعلى دور الدولة وأراضيها. وقد قتل قائد هذه السرية وعدد من أفراد سريته العام الماضي، بعد قيامه بتحطيم عدد من عربات الباعة، أثناء حملة لإزالة أكشاك غير قانونية نصبت في سوق الهرج، أحد أسواق مدينة الناصرية.

مدير بلديات ذي قار محسن هديب أوضح لـ"نيوزماتيك" "نعاني كثيراً، فتكدس النفايات في أهم شوارع المدينة كان بسبب انتشار الباعة المتجولين، بل إن أولئك الباعة لا يسمحون لنا حتى بتنظيف الشوارع، لعدم قدرة سيارات البلدية على الوصول إلى الأرصفة التي يحتلونها، ونحن ننفذ حملات دورية بمساعدة الشرطة لإزالة التجاوزات ومصادرة العربات والبسطات، أما بالنسبة للأحياء العشوائية فليس لدينا تعليمات حولها حتى الآن".