This site uses cookies for analytics and personalized content. By continuing to browse this site, you agree to this use.
We have updated our Privacy Notice, click here for more information Acknowledged

العون الخيري العربي: التحديات والعقبات
02/02/2007

ثمة تعبيرات كثيرة تستخدم للإشارة إلى المساعدات الدولية، منها العون التطوعي وعون الإغاثة. لكن بغض النظر عن التعبيرات، لا بد من الإقرار بأهمية الموضوع على الصعيد العالمي، إذ أنه أصبح شاغلاً مهماً لكل المجتمعات في كل مكان، له روافده ووسائله المميزة في تجميع الأموال اللازمة لبرامجه من المانحين، كما له نتائجه المعترف بها في تخفيف حدة الفقر والجوع في الدول النامية، وفي مد يد المساعدة والاغاثة للمتضررين في العالم من الكوارث الطبيعية والحروب والمنازعات الدينية والعرقية وغيرها.

وهناك جهات كثيرة تضطلع بمهمات العون الخيري، من اهمها المنظمات غير الحكومية وغيرها من منظمات المجتمع المدني التي ظهرت مبكراً في الدول الغربية، واتسمت بفهم متعمق للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العصية في الدول النامية، ومدت لهذه الدول يد العون طيلة العقود السابقة من خلال تمويل مشاريع وبرامج إنمائية مميزة، وبخاصة في مجال مكافحة الفقر والجوع والأمية ونقص المياه والقضاء على الأمراض وتحسين الظروف الصحية والتعليمية والمعيشية، وهي جهود تلاقي ترحيباً من سكان الدول النامية، يعاني منهم حوالى 852 مليون إنسان من الجوع المزمن، وهم في تزايد مستمر سنوياً بحوالى خمسة ملايين شخص.

ويبين برنامج التغذية العالمي في هذا الشأن ان حوالى 300 مليون طفل في العالم يعانون الجوع ولا ينتسبون إلى المدارس، وفي أفريقيا تحديداً يزيد نقص الغذاء حالياً بمعدل ثلاثة أمثال ما كان عليه في منتصف الثمانينات، فيما يعاني ثلث سكان الدول الأفريقية نقصاً في التغذية، ويبلغ الدخل اليومي لنصف سكانها أقل من دولار.

وهناك في الوقت الحاضر مئات من المنظمات الأهلية الغربية المميزة التي تلعب دوراً كبيراً في مجال العون الخيري والإغاثة عالمياً، وتعتبر أداة مهمة للتنمية والتعاون الدولي لها آثارها الإيجابية في مساعدة الدول النامية، وتتمتع بخبرة واسعة في هذه الدول. وهناك اعتراف منذ أمد طويل بأن لها ميزة نسبية على الحكومات والهيئات الدولية في الوصول المباشر الى المحتاجين في المناطق النائية التي يصعب الوصول اليها، وفي ايجاد تعاون وثيق مع أجهزتها المحلية بما يؤدي إلى وضع برامج نافعة تلبي الاحتياجات الملحة.

والبنك الدولي الذي يتمتع بالقدرة الكبيرة على الاقراض والخبرة الطويلة والمعرفة الفنية المميزة، اعترف منذ عام 1982 بأهمية هذه المنظمات التي ترعى العون الخيري وأبدى تقديره لجهودها، ومد جسوراً من التعاون البناء معها للاستفادة من خبرتها في صوغ وتقويم وتنفيذ المشاريع في الدول النامية، وأجرى تعديلات على منهجه تبعاً لتجربتها ورؤاها وبخاصة في مجال مشاريع مكافحة الفقر، لتميزها في تنفيذ هذه المشاريع، واهتمامها الزائد بالفقراء، لا لإشباع احتياجاتهم الأساسية فقط، بل لتمكينهم من المساهمة في عملية التنمية أيضاً من خلال تدريبهم وتعليمهم، وتنظيم برامج لمحو الأمية، وإكسابهم مهارات أساسية في مجالات تحسين أحوال المجتمعات الفقيرة.

يضاف إلى كل هذا أن عدداً كبيراً من منظمات العون الخيري في الدول المتقدمة اقتصادياً لا ينحصر نشاطها في تقديم العون فحسب بل تعمل أيضاً «كقوى ضاغطة» على الصعيد العالمي، تمارس نقد التوجهات الخاطئة والسلبية في مجال العون والقروض المقدمة من الدول الغنية والمنظمات الدولية إلى الدول النامية. ولعل من المناسب ذكر هيئة «اوكسفام الدولية للإغاثة»، كمثال في هذا الشأن، وهي كما هو معروف اتحاد مؤلف من 12 منظمة أهلية، تعمل معاً في حوالى مئة دولة، ومستشارها الفني الاقتصادي الهندي الشهير أمارتا سن الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، وهي تهدف الى إيجاد حلول للفقر والحرمان والظلم في العالم. وبلغت نفقات مشاريعها الإنسانية والإنمائية في السنة المالية الماضية حوالى 585 مليون دولار.

ومن الامثلة على دورها كقوة ضاغطة عالمياً، مساهمتها الفاعلة في تشكيل أضخم تجمع عالمي ضد الفقر من 150 مليون شخص في 80 دولة لحفز حراك عالمي شعبي ضاغط على رؤساء الدول للاهتمام بحل مشكلات الفقر. ومن الأمثلة الأخرى نقدها مؤسسات دولية كالبنك الدولي لتعطيلها برامج مكافحة الفقر في الدول النامية في مقابل تقديم حلول تعتمد على القطاع الخاص، إضافة إلى مطالبتها المستمرة لإعفاء الدول النامية من الديون المقدمة لها من الدول الغنية وبخاصة من مجموعة الثماني الكبار، وكذلك مطالبتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في اجتماعها الأخير بوقف مبيعات الأسلحة التي تسبب الفقر والأزمات وانتهاكات حقوق الإنسان، خصوصاً ان الإنفاق العالمي للتسلح بلغ 1059 بليون دولار، بما يفوق 15 مرة حجم الإنفاق الراهن على المساعدات الدولية.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ماذا عن العون الخيري في الدول العربية؟

هنا لا يسعني الا القول انه على رغم ظهور منظمات عربية كثيرة حتى الآن في مجال العون الخيري إلا ان مساهماتها ما زالت محدودة، مع وجود معوقات كثيرة تواجهها تتمثل بالقيود البيروقراطية، والأنظمة الحكومية المعيقة لعملها، إضافة إلى معوقات تنبع من داخل تلك المنظمات نفسها، تتمثل بضآلة الأموال المخصصة لها، أو حصر تلك الأموال بوقفيات متواضعة يستفاد من عوائدها فقط لأعمال خير محدودة شكلاً ومضموناً، إضافة إلى تركز إدارة بعض تلك المنظمات في قبضة فرد واحد في جو من الاستبداد والتفرد بالرأي والصراعات والاحتقان والنشاطات السطحية، أو في قبضة أدعياء التدين والهوس الديني والتطرف، أو في قبضة تنظيم سياسي وتوجيه نشاطاتها إلى ما يخدم برامجه وأهدافه الضيقة، ويجعلها عاجزة عن التكيف مع واقع العون الخيري المتسع الأبعاد، وغير قادرة على الوصول إلى أكثر الأسر فقراً وجوعاً وبؤساً وأكثر المناطق اعتزالاً.

والدول العربية بأمس الحاجة إلى هذا النوع من العون، والى تنظيمه من قبل منظمات المجتمع المدني، للمساهمة بفاعلية في حل الكثير من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تحد من تحسين أحوال العرب خصوصاً المشكلات التي تتصل بالفقر والبطالة، وانخفاض الدخل، حيث ان اكثر من ثلث العرب يبلغ دخل الفرد منهم حوالى دولار واحد فقط، إضافة إلى تردي الخدمات الأساسية، الصحية والتعليمية والماء والأمن والمأوى، وغيرها من العوامل الأخرى التي تعمل على تعميق الفروق الاجتماعية والاقتصادية بين السكان، وتؤدي إلى عدم الاستقرار وتردي الأوضاع الأمنية وتفشي التطرف والإرهاب.

ولا سبيل إلى نجاح العون الخيري ودفعه وتطويره من دون المانحين المميزين الذين يتحلون بقدر عالٍ من الصدقية وبعاطفة إنسانية متأججة لعمل الخير، ومثل هؤلاء كانوا وراء نجاح مئات المنظمات الخيرية في الدول المتقدمة اقتصادياً وتمتلئ أدبيات العون الخيري بأسماء لامعة منهم، ساهموا بكرم زائد بتأسيس منظمات خاصة بهم أو بدعم منظمات قائمة اهتمت بتقديم العون للدول النامية.

وأهم ما يلفت النظر في الوقت الراهن في مجال المانحين هو بروز فئة جديدة منهم تخصص مبالغ مالية ضخمة لعمل الخير، لم تعرفها مبادرات القدوة من المانحين طيلة العقود السابقة، وعلى رأس هؤلاء بيل غايتس أغنى أغنياء العالم، إذ اعتمد وزوجته 30 بليون دولار لمؤسستهما الخيرية، المعروفة باسم «مؤسسة بيل وميلندا غايتس»، والذي حدد حجر الزاوية في نشاطها الخيري لمكافحة الأمراض والفقر وترويج التعليم عبر العالم، وتنفق سنوياً حوالى 1.5 بليون دولار على مشاريع في هذه النشاطات. وقرر غايتس في الوقت نفسه أن يتفرغ لإدارة المؤسسة والإشراف عليها وذلك بدءاً من عام 2008 معبراً بذلك عن اهتمامه الزائد بأعمالها الخيرية.

ووهب المستثمر المعروف وارن بافيت، ثاني أغنى رجل في العالم بعد غايتس، حوالى 30 بليون دولار، تشكل معظم ثروته الشخصية، إلى «مؤسسة بيل وميلندا غايتس»، وبهذا أصبحت هذه المؤسسة اكبر مؤسسة اجتماعية ناشطة عالمياً بأصول إجمالية تبلغ بحسب صحيفة «وول ستريت جورنال» حوالى 60 بليون دولار، كما دخل بافيت التاريخ بتقديمه اكبر تبرع خيري على الإطلاق يقوم به شخص واحد في العالم.

إن نظرة فاحصة لهذه الظاهرة، تبين مدى البعد الإنساني فيها، لان هذه الأموال الطائلة ستوجه لتحسين ظروف عيش ملايين الناس من دون تفرقة بينهم على أساس لون البشرة والعرق والدين، ولان المعنيين في هذا العمل الخيري الكبير، وزعوا ثرواتهم خلال حياتهم، ولم يخصصوها لأبنائهم، فبحسب تعبير وارن بافيت، «يفقد أولاد الأغنياء الاندفاع والطموح إذا ورثوا ثروة أهلهم كاملة».

ولعل هذه الظاهرة تشجع أغنياء العالم على الاهتمام بأعمال الخير، وتقديم العون للدول الفقيرة بخاصة وأنهم يكتنزون حوالى 42 تيرليون دولار، حصة الأغنياء العرب منها أقل من نصف في المئة .

ولعلي لا أجافي الحقيقة بالقول إن قلة قليلة من الأغنياء العرب يهتمون بالأعمال الخيرية في حدود ضيقة جداً، مقارنة بما هو عليه الأمر في الدول المتقدمة اقتصادياً.

كذلك من المناسب عند هذه النقطة القول عدم اهتمام الأغنياء العرب بالعمل الجماعي، إذ يحبذون العمل الفردي من خلال تأسيس جمعيات خاصة بهم، برؤوس أموال محدودة، ما يقلل من حجم انجازاتهم ومساهمتهم في حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه الدول العربية.

إن تعبئة مزيد من الموارد المالية العربية لغرض الأعمال الخيرية على جانب كبير من الأهمية بسبب ضخامة التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الدول العربية، ويجب على الأغنياء العرب أن يتحملوا نصيباً رئيساً من مسؤولية تحريك أعمال العون الخيري التطوعي، وتعبئة الأموال اللازمة لهذا النشاط الإنساني، لتحقيق فوائد مجتمعية عريضة، بعيداً من مصالحهم الذاتية الآنية، وان يكون عملهم جماعياً في مؤسسات مستقلة تعمل في مجالات متنوعة، تشمل على وجه الخصوص مكافحة الفقر والبطالة وتطوير الصحة والزراعة والتعليم، وان يمتد عملها من إشباع الحاجات الأساسية للإنسان، إلى تدريبه وتمكينه من المساهمة الفاعلة والنشطة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

نقلا عن المصدر التالي:

سميح مسعود .. باحث اقتصادي في " المركز الكندي لدراسات الشرق الاوسط"

صحيفة الحياة اللندنية