الكرد الفيليون.. مواطنون عراقيون على ذمة توافق الأعراق والمذاهب
كتابة ـ محمد خضير سلطان- الصباح
ان تكن عراقيا، هذا لا يعني انك تنتسب الى اكثرية او اقلية عرقية او مذهبية حسب، فقد يحصل تداخل مربك في هذا الشأن اذا كنت من اكثرية مذهبية واقلية عرقية في ذات الوقت،
مثلا،اذاكنت كرديا من مذهب الاكثرية العربية او كرديا من مذهب الاقلية العربية (وموضوعنا هنا عن عرق الكرد الفيلية الذين يعدون اقلية عرقية تنتمي الى اكثرية مذهبية، يسمونهم ذوي المظلمتين غير أن رفع الظلم لم يسو اثاره القانونية والسياسية العالقة فضلا عن حالة توافق الاعراق والمذاهب التي لم تحسم مظلوميتهم) بحيث ان عافية التعدد والتنوع التي اغنت مجتمعات كثيرة في العالم واستفادت فيها كثيرا من اشكال التعدد الاثني والمذهبي في بلورة مواقف سياسية، تعود بالنفع والازدهار على تنوع مجتمعاتها الا ان هذه العافية التعددية الاثنية والمذهبية وتداخلاتها العامة، اصبحت نقمة ووبالا على العراقيين وصار من الصعب ايجاد القاسم السياسي بين الاعراق والمذاهب بالرغم من توافر القاسم الاجتماعي المشترك ، من الصعب ايضا فصل القيم الثقافية السامية عن القيم السياسية المشوهة بحيث غاب الوضوح وابهمت الصورة الا بمقدار ما تقاس به هوية الانتماء، في الاقل في حسابات السائد من لغة نظامنا الاجتماعي الشعبي،اي حجم الضرر والحيف الذي لحق بهذا العرق وذاك المذهب جراء الطغيان في الانظمة السياسية السابقة، وبذلك فان المقولة السياسية الوحيدة التي تجمع اطار هذه الفكرة وتدفع بها الى الفهم، هي المقولة الشعبية العامة الناتجة عن المعاناة والظلم من الطغيان والقارة في سياق الفهم الشعبي البسيط، مظلومية الشيعة، مكابدات ومواضعة السنة، مفارقة الفيليين والايزيديين والارمن والشبك وغيرها، واذا كان القاسم الاجتماعي المشترك هو الدافع للنخب والمكونات السياسية للعمل على رفع الظلم والحيف فان القاسم السياسي المشترك ظل بعيدا عن التشكل والوضوح فلم تبتعد المواقف السياسية عن انشائيتها الاجتماعية البسيطة ولم تصل الصيغة السياسية الى فض الاشتباك بين الاثنيات والمذهبيات بشكل فاصل،
بين المنظومة الثقافية الانسانية والدينية وبين المنظومة السياسية، وتم دمج المنظومتين في سياق مشوه فمن يتحدث بالفاظ الشيعة ، السنة، الكرد، العرب، يحسب حديثه سياسيا محركا للفرقة والتجزئة فيما تسحق القيم الثقافية كونها كتلة من التقاليد والعادات المجتمعية تحت ذرائعية البعد
السياسي غير المحدد في الفهم والممارسة.
على اي حال، ان تكن عراقيا الآن، هذا لا يعني انك تنتظر ما تسفر عنه المواقف السياسية من تشكل ووضوح تجعلك في مرتبة مواطنية متوازنة ومدركة من الحركة المشهدية (الميزانسين) على مسرح جميع الاعراق والمذاهب بل العمل على استعادة وتحليل معاناة العراقيين ودفعها الى الاستنتاج والوضوح، وبذلك فان من يكن عراقيا، لا يعني ان يكون من هذا العرق او ذاك المذهب حسب وانما من يمتلك قصة عراقية، شهادة انسانية لا تطرح رفع مظلوميتها فقط وانما تثير اسئلة كبيرة في ايجاد بدائل وطنية حقيقية للعيش المشترك واكتشاف العراق خارج وحدة الفهم التي املاها الظلم والطغيان وقطع الطريق على استعادتها الارتكاسية.
شهادة عراقية على شكل قصة لنيل الاستحقاقات بحيث تصبح مياه الرافدين وجبال كردستان ملكا مطلقا لهذا العراقي الذي اكتوى بنار الطغيان فلا يسأل عن اوراق ثبوتية او سجل عثماني للبرهنة على عراقيته. ان تكن عراقيا يعني، ان لديك قصة عراقية، ولا يعتقد اي عراقي من العقود السابقة ان لا توجد لديه او لدى سواه قصة كبيرة، كابدا فيها صنوف القهر والتنكيل ولو اقتصر فن الرواية والقصة على سرد الوقائع فقط من دون استخدام البناء اللغوي والفني الملائم لكان كل الشعب العراقي روائيين وقصاصين.
قصة عراقي
ومن هذه الحكايات والقصص، ما كابده المواطن فيصل حسين (ابو غزوة) من محن واوصاب، جعلته يتحدث بحب غامر لبلده ويتمسك بوجوده فيه بالرغم من انه كان من المصادفة،ان يظل حيا في غياهب سجون النظام السابق في الثمانينيات من القرن الماضي، وحين يسرد تفاصيل وضعه انذاك، تذهب ذاكرته بقوة الى المئات من زملائه الذين غيبوا، ومن المفارقة الابعد من المأساوية، انك حين تسأله عن وسائل التغييب، هل تم قتلهم باطلاق الرصاص، لا، تذويبهم بالاسيد، لا، ومن الصعوبة ان يصل في ذهنه وخواطره الى صورة لنهاية مئات السجناء، واذا كان من السهل عليه ان يتذكر تفاصيل قاطع السجن ( قاووش 7في ابي غريب)، واذا كان من السهل ان يتذكر ملامح وجوه من يعرفهم الا انه لا يقوى على تخيل صورة تغييبهم سوى ان الابواب فتحت لسوقهم الى الموت كونهم من المشاركين في اضراب السجن في العام 1982
* كم عددهم؟
- 700 شخص
كيف عرفت بتغييبهم، ربما تم نقلهم الى سجن آخر؟
-كنا ندرك بحكم التجربة سلوك السجانين، وحقا احيانا تخفى علينا امور كثيرة لا تستطيع حدوسنا ان تدركها جيدا ولكن في حالة تغييب 700 من زملائنا بعد الاضراب، كان احد السجناء من قاطع 8 الذي كنت نزيله، تربطه علاقة وشيجة مع احد الضباط فترجاه ان يخبره عنهم من خلال فحص سجلاتهم، وحين استطاع هذا الضابط ان يتأكد بحذر شديد من مصيرهم، قال له وهو صادق: قتلوا ولكن اياك واياك واياك، ان تسأل كيف، ومنذ ذلك اليوم حتى الاشاعة الملفقة غير قابلة على انعاش ذاكرتنا بمتخيل كاذب.
* مرت سنوات خمس على سقوط النظام واكتشفت مقابر جماعية كثيرة فما عثرتم على شيء.
- ابدا!
احداث ومجريات كثيرة ، تتدفق وتتشعب في حديث ابي غزوة ،( فيصل حسين- تاجر في منطقة جميلة- من مواليد الكاظمية 1958، اكمل الدراسة الابتدائية في مدرسة النجاح الثانية بالعطيفية، وانتقل مع عائلته الى منطقة جميلة فدرس في متوسطة القادسية واستمر بدراسته الاعدادية في اعدادية الكفاح بمنطقة النهضة، في العام، 1982 كان عسكريا، اعتقل وهو في قسم الملاكمة في القوة الجوية) حصد من خلالها شقاء عشر سنين سجن، بدأت في ابي غريب مرورا بنقله الى نقرة السلمان وسجن كربلاء وحتى ابي غريب ثانية،ومن مخاض هذا الشقاء بلا سبب سياسي او جنائي، يشير ابو غزوة الى حالة نفسية تلبست السجناء جراء العناء والضغوط النفسية المتراكمة بحيث وصل الامر بالسجناء الى ترجي السجانين بتنفيذ الاعدام بهم ، والاسوأ من ذلك كما يقول : ان السجانين يجيبون بنفس حالة التبلد واللامبالاة المتلبسة بالسجناء : ليست لدينا صلاحية!
يالتلك المفارقة التي لا يدركها الا من يحيا غمارها، ان القتل يصير حالة تواطؤ بين السجان والسجين، السجان يستسهل القتل ويجتث ضميره نهائيا والسجين يستسهل ان يقتل ويغدو الموت حياة لروحه، وليس غريبا في العراق ان الالاف من الشهداء في العراق ماتوا جزعا من حياة الطغيان على هذا الوفق قبل اوامر التنفيذ وكل الجلادين لم يتوانوا بالقتل اذا ما توفرت الصلاحية المزعومة.
شهداء ، يموتون قبل التنفيذ، وجلادون جاهزون قبل اوامر الاعدام، اي طغيان.
-سألت المواطن فيصل حسين (ابو غزوة)، ماهي التهمة الموجهة اليك.
- الانتماء الى حزب الدعوة!
- طبعا لم تكن كذلك..
- طوال حياتي ، لم اعرف شيئا سوى الرياضة وحين اعتقلت ، كنت في نادي القوة الجوية، وبملابسي الرياضية ولم اترك حقيبتي من على كتفي عند الدخول الى ضابط الامن، وعندما خرجت بعد انقضاء عشر سنين، اول شيء تذكرته: الرياضة وعائلتي.
اضراب السجناء
-وما قصة اضراب السجن؟
- في العام 1982 ، في الشهر السادس او السابع، كنا في (ق 7 و8 بسجن ابي غريب)، وفي صبيحة احد الايام انتفض 1500 سجين في قاطع 7 وكلهم من العسكريين الذين اعتقلتهم السلطة بتهمة ظاهرة لانتمائهم الى حزب الدعوة وتهمة باطنة لانتمائهم الى الكرد الفيليين، ومن الطبيعي ان يكونوا من الشباب وبمختلف الرتب، وعلى حين غرة كما يقولون، استدركت السلطات القمعية ابان حربها مع الجارة ايران، بان هؤلاء الشباب ليسوا عراقيين فسحبتهم من الجبهات العراقية الايرانية لترمي بهم في غياهب السجون، في الوقت الذي بدأت بتهجير عوائلهم الى ايران،فكان مشهد ثوار السجن متوافقا مع الصرخة المكبوتة لعوائلهم المنقادة بقوة السلاح الى ترك الوطن ، كنا ننظر الى الابواب الثقيلة كيف تنخلع بيسر على قرع المئات من الغاضبين ، وكان هؤلاء المنتفضون يبغون قلع الابواب الا ان طاقة الغضب العارمة ، استنفدت بعد اطلاق الرصاص الشديد من قبل السجانين وسقوط خمسة قتلى واختناق الآخرين على اثر وابل من القنابل المسيلة للدموع، وحين تمت السيطرة على الاضراب ، عملت ادارة السجن على البحث عن منفذين فاحتجزت بعد طول استجوابات وتحقيقات مضنية ، لاقى فيها ثوار قاطع 7 مختلف صنوف التنكيل والضرب حتى توصلوا الى احتجاز خمسة او ستة اشخاص كونهم المنفذين، ولشدة خطورتهم ،احتجزوا في زنزانة مغلقة بلا ابواب ومنافذ سوى فتحة صغيرة للطعام وبعد مرور ستة اشهر ، اخذوهم واخذوا معهم سبعمائة من زملائهم وسيقوا نحو الموت، وحتى هذه اللحظة لم نعرف ولم تعرف عوائلهم كيف تمت تصفيتهم.
أحابيل تصفية السجناء
لاشك ان السجناء جميعهم مشروع تصفية للسجانين غير ان وسائل البطش والتخلص، تتخذ اساليب متعددة، يكتشفها السجناء غالبا، واحيانا، يسفر السجان عن لغته القبيحة ويسقط اقنعته بفظاظة من دون ان يأبه لاية قيمة انسانية، يقول ابو غزوة: من حين لاخر، تأتي لجان من وزارة الدفاع ومديرية الامن العامة لدراسة استعادة وجبات الى الجبهة وامكانية ارسالهم الى القتال، عجبا، جاؤوا بنا من ثكناتنا العسكرية ومن الجبهات بدعوى اننا غير عراقيين وليس من المستبعد ان يعودوا بنا ثانية الى القتال، شيء مريب، وعلى الفور سرت في خواطرنا جميعا ، سنكون طعما في سنارة الحرب وليس مقاتلين حقيقيين بيد ان السجانين اخفوا الفكرة بادىء الامر بجلب ملابس عسكرية نظيفة وبكامل القيافة كما يقولون في مصطلحات الجيش، بدؤوا على هذا الوفق بالوجبات الاولى (عشرة اشخاص لكل وجبة) ومن ثم تهلهلت التمثيلية السخيفة واذا بالوجبات الاخيرة، تسقط ستائر الشك بقوة وبدلا من ان تخامر المختارين من الوجبات فكرة الخلاص وسط الريبة ، اصبح الاشخاص الذاهبون الى الجبهة متيقنين بانها طريقة آخرى للاعدام، وزاد الامر سوءا ان ادارة السجن لم تلق اهتماما لتحضير الملابس العسكرية وباتت تزج الوجبات الاخيرة زجا من دون اكتراث او تمهل.
ـ وكيف عرفتم باحبولة السلطة؟
ـ في بداية الوجبات، كنا نلقى اهتماما وتجليلا من قبل ادارة السجن حتى انهم سمحوا للاشخاص المختارين بالاتصال التلفوني من خارج السجن فخطرت في بال احدنا فكرة وقال لاحد المرسلين في الوجبات المبكرة بان يتصل به واعطاه كلمة سر اذا قالها ، سوف تؤكد قطعا بانهم في الجبهة كمقاتلين والعكس سيكون العكس ، وحينما اتصل زميلنا لم يذكر ابدا كلمة السر فايقنا باننا في احبولة قذرة جديدة راح ضحيتها ثلثمائة سجين.
حق ام استحقاق
ما الذي يمكن ان يقدمه مواطن لينال مواطنيته اكثر مما قدمه فيصل حسين، ان عطاءه في اعراف الدول يعد اكبر الثبوتيات التي يتصاغر معها فقه كل القوانين والانظمة فلا يمكن لأمة ان تهدي مواطنيها الى امم آخرى بتلك السهولة او حتى على مستوى آثار الفكرة بعد كل هذا الشقاء!
كان شاعر روسيا الكبير بوشكين قد ولد على المياه في سفينة متجهة الى روسيا وقادمة من اثيوبيا وكان لأب افريقي غير ان الامة الروسية لاتشك لحظة في انتساب بوشكين الى الامة الروسية ولم تهده الى امة آخرى كما أهدينا الجواهري ومصطفى جواد الى امم قريبة بتعبير احد الكتاب العراقيين!
وفي مثال آخر يورده الفنان العراقي الكبير محمد سعيد الصكار، حين قدم طلبا الى دائرة الهجرة في فرنسا ، يأمل فيه ان يتم تحديد المراجعة حول الاقامة من خلال مواعيد قليلة فبدلا من المراجعة كل ثلاثة اشهر، حبذا لو يراجعهم لكبر سنه كل ستة اشهر، وحين تسلمت موظفة الدائرة طلب الصكار، عاد بعد ايام ليجد نفسه وقد منح الجنسية الفرنسية، وعندما سألها بدهشة ممزوجة بالفرح، لماذا... قالت له : لأنك الصكار، الفنان الكبير ومن العبث ان تفرط فيك فرنسا، ومنذ ذلك اليوم يحب الصكار فرنسا مثل حبه للعراق، ولكن الفرق ان الاولى هي التي منحته الحب والثاني هو الذي يمنحه الحب. ونعود الى قضية المواطنين الفيليين، فاذا كان النظام السابق كونه عدوا لهذا العرق من المجتمع( الكرد الفيلية) فمن الطبيعي ان يناصبه العداء والكراهية ولكن لماذا تتبقى منه بعض آثاره القانونية عالقة بلا حل في ظل العهد الجديد، هل من المعقول حين يراجع السيد فيصل حسين مديرية الجنسية العامة من اجل مداولة اوراقه الثبوتية الشخصية، يقف حسب التوجيهات المريرة في قسم الاجانب، وهل نظل على الدوام نردد القول العتيق: ذلك من صروف المبكيات المضحكات؟، هذه المرة نبكي من ونضحك على من؟
وعندما يراجع السيد فيصل او غيره من زملائه الفيليين حزب الدعوة فسوف يجد بانه محجوز في ما تورده سجلات الحزب والمحجوز هو السجين العابر الذي لايستحق ان يستوي بالسجين السياسي ومن ثم فان حقوقه تكون بمستوى اقل.
اما اذا ذكر السيد فيصل الاخوة في كردستان فلا يتحدث سوى بالقول ان ذوي القربى اشد مضاضة ولكننا نعلق بان الاشد مضاضة، ان قصصكم العراقية لاتستطيع تغيير ارادة المشرعين بالرغم من ان حقوقكم غدت استحقاقا لكم وواجبا على العهد العراقي الجديدة.