This site uses cookies for analytics and personalized content. By continuing to browse this site, you agree to this use.
We have updated our Privacy Notice, click here for more information Acknowledged

جمع النفايات، حرفة يمتهنها الفقراء لتأمين لقمة العيش
01/07/2008

 

 

بغداد - اصوات العراق

مع خيوط الفجر الأولى تنسل أم فارس مع ابنتها ذات الثلاثة عشر ربيعا لتوجه بيديها عربتها التي يجرها حمار صغير، إلى حيث مجمعات النفايات ليلتقطا بكفيهما المستورة بقفازات سود متآكلة الأطراف ما يمكنهما الاستفادة منه، لكن عملها هذا ينطوي على مخاطر مختلفة صحية وأمنية كما يرى زميل لها.
وتقول أم فارس إن عليها أن تبكر كي تسبق سيارات جمع القمامة التابعة لأمانة بغداد، ومركبات حمل المقاولين المتعاقدين معها، كما إن عليها أن تسبق غيرها للفوز بكمية أو نوعية أفضل مثل علب المشروبات الغازية الفارغة وعلب الأغذية والحليب والمواد المعلبة الأخرى، وإذا حالفها الحظ فقد تجد بعض الملابس والأحذية التي يمكن استخدامها ثانية.
واضطرت ابنتها هدى إلى ترك مقاعد الدراسة بعد أن تعلمت القراءة والكتابة فقط لترافق والدتها كل يوم للبحث في أكوام النفايات بالمناطق السكنية.
وأم فارس واحدة من بين آلاف المواطنين الذين امتهنوا هذا العمل في معظم المحافظات العراقية، وتزايد عددهم بشكل كبير بعد الضائقة الاقتصادية وزيادة معدلات البطالة وتدني سعر صرف الدينار العراقي مقابل العملات الأخرى بشكل غير مسبوق، التي نجمت عن الحظر الدولي عام 1990 وما تلاه من تداعيات انتهت بالاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003.
ولا تتوفر إحصاءات رسمية أو شبه رسمية عن أعداد هذه الشريحة.
ويرى أبو مرتضى الذي يسكن حي المعامل الواقع في الأطراف الشرقية لبغداد حيث تتركز النسبة الأكبر من الباحثين عن مخلفات النفايات المفيدة (يطلق عليهم في اللهجة العامية العراقية اسم: الدوارة) أن  "عملي يجابه من الناس بنظرة دونية أحسها وأبصرها في عيونهم"، ويضيف "برغم من تلك النظرة لم أفكر يوما بترك هذه المهنة التي أعيل بها عائلتي منذ أواسط التسعينات حين كاد الجوع أن يحولني إلى لص أو متسول"، معتبرا مهنته "أهون الشرين".
ويلخص أبو مرتضى للوكالة المستقلة للأنباء (أصوات العراق) مصاعب عمله بـ "خطر التعرض للعبوات الناسفة حيث يفضل المسلحون زرعها وسط أكوام القمامة"، إضافة إلى "العمل في بيئة تحمل الكثير من الروائح النتنة المنبعثة من أكوام القمامة المتفسخة التي تهددنا بالإصابة بإمراض عديدة" ناهيك عن "التعرض إلى مشاكسات ومشاكل من يعملون معنا في نفس المجال من مناطق أخرى".
أما ساهرة محمد من سكنة مدينة الصدر، فقد ارتبط عملها بهذه المهنة بعد وفاة زوجها "العامل البسيط اثر انفجار عبوة ناسفة في المسطر (مكان تجمع العمال) الذي ينتظر فيه رزقه"، ونصحتها بهذا العمل، كما تقول، عائلة مجاورة تعمل بنفس المهنة، وتتابع بالقول "لا اعرف ما كان سيكون عليه حالي وأبنائي الأربعة لو لم تدلني تلك العائلة على هذا العمل" فهو "أفضل من التسول على الرغم من أن المجتمع لا يقدره ويعتبرنا عالة عليه".
وتضيف لـ (أصوات العراق) "اصطحب معي ولدي البكر الذي ترك مقاعد الدراسة، فيما يبقى الثلاثة الصغار في البيت"، وهي ترى أن المورد الذي يوفره العمل "جيد ويكفينا ذل السؤال، حيث نجمع المواد البلاستيكية وعلب المشروبات الغازية الفارغة ليشتريها منا متعهد بسعر إلفي دينار للكيلو الواحد"، مشيرة إلى أن المعامل "تأخذها منا بضعف السعر، إلا أنها بعيدة عن مناطق سكننا، الأمر الذي سيكلفنا في حالة نقلنا لها مبالغ كبيرة".
ويتحدث كامل عبد الله (17 عاما) عن مشهد ما زال يقلق نومه ويقض مضجعه إذ "نزل مجموعة من المسلحين من سيارات في وقت مبكر أواسط العام 2006 ثم قاموا بقتل ثلاثة من أصدقائي الدوارة" ويضيف عبد الله لـ(أصوات العراق) "كان ذلك بعد أن بدأت الأوضاع الأمنية بالتدهور في منطقة الدورة التي تقع جنوبي بغداد " الأمر الذي حدا به إلى "ترك مهنة الدوارة والعمل في ورشة حدادة فترة من الزمن" إلا إن تحسن الأوضاع الأمنية في اغلب مناطق العاصمة مؤخرا شجعه على "العودة للعمل في مهنة الدوارة".
وعن طريقة العمل يقول عبد الله إنه "يتم تقسيم المناطق بين الدوارة المتواجدين في نفس المكان، ولا يجوز لأي شخص التجاوز على حق الآخرين، ومناطقهم بعد التقسيم" أما تصريف المواد فيتم عن طريق "بيعها إلى المتعهد، الذي يشتريها منا بأسعار منخفضة ويبيعها بضعف ثمنها أو أكثر"، معللا رضوخهم لذلك بأنه "أمر متفق عليه فلكل مهنة أعراف يجب أن يتم التقيد بها وإلا مصيرك أن تطرد منها".
ويرى عبد الله انه قد يكون "للمتعهد شخص آخر اكبر منه، فالمهنة أصبحت تجارة لها سوق كبير ورائج".
أما الجهات التي تقبل على شراء تلك المخلفات من المتعهدين فهي كما يقول منذر كريم (15 سنة) فتتركز في "المعامل الأهلية التي تعمل على إعادة تصنيع المواد البلاستيكية مثل معامل صناعة خراطيم المياه أو إعادة تصنيع الأواني المصنوعة من الألمنيوم في مناطق مختلفة من بغداد مثل أبو غريب والكاظمية (غربي بغداد) والحبيبية (شرقي بغداد)".
وتلاقي مهنة جمع النفايات منافسة حادة بين الدوارة وعمال النظافة التابعين لأمانة بغداد بحسب ما يرويه الدوار الخمسيني أبو ياسين لـ(أصوات العراق) حيث يلاحظ أن "بعض عمال النظافة في أمانة بغداد الذين يعملون بنظام اليومية كانوا من الدوارة أصلا" إلا أنهم تحولوا إلى عمال "اثر تقديمهم لطلبات عمل باجر يومي بسبب النقص الكبير الذي واجهته الأمانة بعد أن انتشر زرع العبوات الناسفة بين أكياس القمامة" الأمر الذي أدى إلى "ترك الكثير منهم العمل" وتحول الدوارة إلى عمال نظافة.
ويقول عامل النظافة حيدر فاضل إنهم يبحثون أيضا في القمامة التي يجمعونها من المنازل عن مواد صالحة للبيع فضلا عن مزاولة أعمالهم مع الأمانة ويضيف لـ(أصوات العراق) "آخر النهار وعند انتهاء الدوام الرسمي نفرز المواد التي نجمعها عن غيرها في أكياس كبيرة ونبيعها بالسوق" مما يشكل "دخلا إضافيا إلى رواتبنا المتواضعة التي نتقاضاها من أمانة بغداد".
 ويقول عن عمل القمامة إنه "تجارة كبيرة ورائجة" قد تتحول أحيانا إلى "مزايدات على هذه القمامة" حيث تشترى حمولة السيارة دفعة واحدة نظير إلقائها في مكان معين".
بينما يعرب أبو رياض سائق إحدى سيارات جمع النفايات عن استيائه مما يقوم به الدوارة من "بعثرة لمحتويات الأكياس البلاستيكية المخصصة لإلقاء النفايات بحثا عن مواد يستفيدون منها في عملهم" الأمر الذي يؤدي إلى "تعطيل عملنا، لأننا نحتاج إلى وقت إضافي لجمع ما لم يأخذه الدوار من المكان" ويصر على انه من الأفضل للجميع" أن ينتظر في المكبات الرئيسية الواقعة على الإطراف الشرقية للعاصمة".
بينما يقول (أبو نهلة) وهو في أواسط عقده الرابع إنه يجمع "عبوات المشروبات الغازية الفارغة التي تكثر في فترة الصيف بسبب ارتفاع درجات الحرارة" حيث يزداد سعرها ويكثر الطلب عليها من قبل معامل إعادة تصنيع الحديد في الحبيبية أو الباب الشرقي.
ويقول أبو نهلة إنها "مهنة مربحة فأنا أبيع الكيلو من معدن هذه العلب بمبلغ أربعة آلاف دينار ويصل مبلغ ما اجمعه يوميا إلى أكثر من خمسة وعشرين إلف دينار (نحو 20 دولارا)"، حيث أن "وزنها الخفيف يساعد الكثيرين على حملها بسهولة" والمنافس الوحيد لتلك العلب هو "النايلون أو البلاستك فهو متواجد بكثرة وسعره مرتفع والطلب عليه لا ينقطع مثل علب المشروبات الغازية المحدد وقته بالصيف غالبا".
ويرى الباحث الاجتماعي فارس العبيدي أن مهنة الدوارة "توسعت ونشطت خلال سنوات الحصار ولم تتوقف حتى الآن" وان أهم أسباب بروزها "توقف استيراد بعض الأساسيات والمواد الأولية الداخلة في كثير من الصناعات المحلية".
ويقول العبيدي لـ(أصوات العراق) "يطلق العراقيون على المواد المنتجة من إعادة تصنيع المواد التي يجمعونها من النفايات اسم "المعاد"، لافتا إلى إن العراق "ليس  البلد الوحيد في العالم الذي عرف هذا النشاط بل انه منتشر حتى في الدول الأكثر تقدما ومنها الولايات المتحدة الأمريكية" حيث تعيش أعداد كبيرة من المشردين فيها على البحث في القمامة والنفايات.
وينوه الباحث إلى إن تلك المهنة ارتبطت بشكل واضح بـ"المعامل الأهلية والورش المنزلية التي تستقبل المواد الملتقطة من القمامة وتستفيد منها في تمرير عمليات الغش فأصبحت أشبه بالشبكة العنكبوتية"، معتبرا أن أساس نشاطاتها ينبع من "حالة عدم الاستقرار في الاقتصاد العراقي خلال فترة الحصار الاقتصادي" الذي فرضته الأمم المتحدة على العراق خلال تسعينيات القرن الماضي.
وعلى الرغم من أن العبيدي يعترف أن هذا النشاط "تقلص كثيرا بعد انهيار النظام السابق بسبب حرية الاستيراد وتوفر المواد الأولية ودخول سلع تنافسية إلى السوق العراقية" إلا انه يرى أن ارتفاع الأسعار يهدد باتساع هذه المهنة حيث أنها "ترتبط ارتباطاً جدلياً بالوضع الاقتصادي للبلد، فهي تضمر إذا نشطت الفعاليات الاقتصادية وتوفرت فرص أفضل للعمل والعكس صحيح".
م د (تق) - ص م - ش م