عرفان نظام الدين/الحياة-
انتهى عهد الدولة الشاملة الكلية الخارقة الأداء والقدرات التي تقوم بكل شيء فتبيع وتشتري وتتاجر وتعجن وتخبز وتصنع الأحذية وتزرع الفجل والبطاطا وغيرهما، وتؤمن الخدمات والتطبيب وتبيع الأدوية وتقوم بالرعاية الاجتماعية وتتعهد حفلات الطرب والغناء وتحتكر الإعلام وتصادر الرأي والرأي الآخر.
في الماضي كان المسؤول يظهر الحرص على «تدليل» المواطن من طريق تقديم الوعود بتأمين كل ما يطلب ويحتاج حتى يسكت ويبتعد عن طريقه ويتجنب مراقبته ومحاسبته ليفقد حقه بالمطالبة بالمشاركة في القرار وفق أسلوب «أطعم الفم يستحي اللسان»... أو «تستحي العين» في موقع آخر. وفي أوطان أخرى لجأ «المسؤول» الى استيراد المبادئ من الخارج ليطبقها في شكل عشوائي فصادر الأراضي وأمّم الشركات والمصانع فسلمها للقطاع العام لتضيع الثروات في متاهاته وليصاب الاقتصاد الوطني بانتكاسات كبرى أو بانهيار كامل في دول عدة أدى الى إفلاس وتراكم الديون وارتهان لإرادات خارجية وإملاءات البنك الدولي وصندوق النقد. وفي الحالتين أدى اتباع هذه السياسات الخاطئة الى نتيجتين سلبيتين أساسيتين هما:
- تضخم جهاز الدولة ومؤسسات القطاع العام التي أصيبت بالترهل ونخرتها «سوسة» الفساد الذي استشرى وتحول الى آفة كبرى نتيجة لنهب الثروات الوطنية وإفلاس مئات الشركات وتوقف المصانع عن الانتاج وتحول الأراضي الزراعية المصادرة الى أراض بور إن لم نقل الى صحراء قاحلة!
- إصابة المواطن، في شكل عام، بحال كسل وخمول وقرف أبعدته عن تحمل المسؤولية وأفقدته الرغبة بالمشاركة في تحمل مسؤولياته والقيام بمبادرات لخدمة وطنه ومجتمعه وبالتالي دفعته للهجرة أو التفكير بها هروباً من واقعه الأليم ومن محاسبة المسؤولين عما آلت إليه الأوضاع من فساد وهدر وترهل ونقص في الخدمات وفوضى في المرافق العامة التي يلجأ إليها لتلبية حاجاته الدراسية والصحية والاجتماعية وكل ما له علاقة بشؤون حياته ومتطلبات معيشته اليومية.
وزاد في حدة الأزمة التي مر بها معظم المجتمعات العربية فشل في ملاحقة ركب التطور وثورة التكنولوجيا التي غزت العالم ومتطلبات «العولمة» التي لم ينج منها أحد لا في الشرق ولا في الغرب، بغض النظر عن أشكال الأنظمة وانتماءاتها واتجاهاتها وعقائد الشعوب وتقاليدها وقيمها.
هذا الفشل المضاعف والمتمادي يدفعنا لرفع الصوت عالياً للمطالبة بمعالجة الخلل الحاصل وتدارك الأخطاء المرتكبة وإعادة النظر في الكثير من السياسات والممارسات وتأمين التوازن بين واجبات الدولة وواجبات المواطن وحقوق الدولة وحقوق المواطن حتى ينفض الجميع عن أنفسهم غبار الكسل والتواكل ويتخلصوا من روح اللامبالاة واللامسؤولية وتتخلى الأنظمة عن عقد السيطرة وتوابعها والهيمنة على المقدرات والخوف من التخلي عن أي جزء من صلاحياتها ومسؤولياتها.
ولا بد أيضاً من تخلي الأنظمة عن هاجس الرعب من فكرة مواجهة الواقع والاعتراف بالفشل والتقصير والخضوع لعملية تقويم ودراسة ومحاسبة لتجارب الماضي لتأخذ منها الدروس والعبر وتبقي على المفيد والمجدي وتصلح المعوج والمنحرف وتتخلى عن المسيء والمضر والفاشل.
الوقفة المطلوبة من الذات تهدف الى البدء بإعادة بناء مجتمعات صحية سليمة وإقامة البنى التحتية الحديثة لها من جوانبها كلها وتلبية كل متطلباتها العصرية من أجل الوصول الى تنظيم معادلة الحقوق والواجبات بين الدولة والمواطن وفق أسس المشاركة الفاعلة وتوزيع الأدوار. وهذه هي الخطوة الأولى المطلوبة لتخفف الأعباء عن الدولة والمواطن في آن واحد وبالتالي الوصول الى بر الأمان وشاطئ الاستقرار القائم على تنمية روح المواطنة وإحياء النخوة الوطنية وتعزيز المشاعر بالانتماء الى الوطن والرغبة بالمساهمة في بنائه والدفاع عنه وحماية مكوناته واعتبار كل ما فيه ملكاً للمواطن الراغب بإحياء رومانسية شعار «كل مواطن خفير» ومبادئ التكافل والتضامن والتراحم والمشاركة في السراء والضراء.
شجعني على هذا الطرح المختلف ما لقيته من ردود فعل وأصداء لمقال نشرته في «الحياة» قبل أسابيع عدة (العدد 15774) وعنوانه «المطلوب تفعيل العمل الخيري والإنساني» ودعوت فيه الى النهوض من الكبوة الحالية والتحرر من عقد الخوف والهروب من المشاركة في المشاريع الخيرية تجنباً لمساءلة أو لمتاعب أو اتهامات بعد أن أدى زلزال 11 أيلول (سبتمبر) 2001، أي تفجيرات نيويورك وواشنطن، الى ضرب هذا القطاع الحيوي ومحاولة تجفيف منابعه وتجميد مشاريعه في العالمين العربي والإسلامي مع أننا نعرف أن الإسهام في أي عمل خيري وإنساني هو من صلب عقيدتنا السمحة ومبادئ ديننا الحنيف بل هو فرض واجب لا سيما في فريضة الزكاة ومفاعيل الصدقات والحسنات.
وكان أول اتصال وردني تعليقاً على المقال من الزميل سليم نصار الذي استغرب خروجي عن الخط العام مثمناً جرأتي في تجاوز المألوف من التعليقات والتحليلات والخوض في غمار شأن اجتماعي وإنساني يعتبره أكثر الكتاب ثانوياً. فقد أدمنا الكتابة عن مواضيع سياسية محددة من لبنان الى فلسطين ومن العراق الى أفغانستان مروراً بالأزمات الكبرى التي يشهدها العالم يومياً.
وتوالت الاتصالات والفاكسات والرسائل من زملاء وأصدقاء وقراء ومنظمات وجمعيات أهلية وخيرية أولها جاء من مكة المكرمة من الأمين العام المساعد للندوة العالمية للشباب الإسلامي (عضو المنظمات غير الحكومية – الأمم المتحدة) الدكتور عبدالوهاب بن عبدالرحمن نورولي اخترت منها قوله: «لقد لفت انتباهي مدى الموضوعية التي تحليتم بها والتي تبدت جلياً في ثنايا هذا الموضوع المهم، والنتائج التي توصلتم اليها».
ولا مجال هنا لنشر المزيد ولكنني أحببت إيراد هذه الإشارة العابرة للتدليل على أهمية هذا الطرح في هذه المرحلة بالذات من دون أن نهمل معالجة القضايا والأزمات والمشاكل الأخرى التي تواجه أمتنا، بل يمكن أن تأتي بالتوازي معها نظراً لتطابق الأهداف والنتائج وعدم تعارضها في الحالتين. فقد أدى «الجبن» في مواجهة الواقع بعد 11 أيلول الى ابتعاد الكثير من الناس عن القيام بواجباتهم الدينية والإنسانية والخيرية تجنباً لاتهامهم بالإرهاب أو الإضرار بمصالحهم. ومع الاعتراف بأن من قام بالعمليات الإرهابية قد أضر بالإسلام وبالعرب وبصورتهم وسمعتهم ومصالحهم فإننا يجب ألا نستسلم للواقع الذي خلفوه وألا نسمح لأصحاب الأغراض الخبيثة بمنعنا من عمل الخير أو المشاركة في بناء الأوطان ونصرة الاخوان. فالفوضى التي كانت سائدة في الماضي والتي أدت الى استغلال أصحاب النفوس المريضة ودعاة الفتن والإرهاب للثغرات وحالات التسامح يمكن إصلاحها وسد هذه الثغرات ووضع تنظيم محكم لها وفرض رقابة على سير عملها ووسائل صرف مواردها.
إضافة الى ذلك لا بد من الاعتراف بأن الأمر قد تعدى أعمال الخير والمبادرات الإنسانية ليصل الى حتمية مساهمة كل فرد في البناء الاجتماعي والتعليمي والصحي والاقتصادي والرياضي. ومسؤولية القطاع الخاص والمصارف ورجال الأعمال القادرين تأتي في المقدمة، تتعبها مسؤولية رجال الإعلام والأدباء والمفكرين والفنانين والمثقفين في شكل عام وصولاً الى مسؤولية المواطن نفسه في المشاركة كل على حسب إمكاناته وقدراته.
ففي الدول المتقدمة يسهم الجميع في مسؤولية مواجهة أعباء الحياة والمشاركة في بناء المشاريع والمؤسسات الخلاقة والمنتجة من مستشفيات ومدارس وجامعات وهيئات المجتمع المدني والجمعيات التعاونية ورعاية المحتاجين والمعوقين والمسنين ومعالجة الآفات وأولها آفة الإدمان على المخدرات والانحرافات الخلقية والجنسية.
هذه المساهمات أدت الى التخفيف من أعباء الدولة وتقديم خدمات لرعاية المواطنين وإيجاد فرص عمل لملايين العاطلين عن العمل وتنمية الاقتصاد الوطني... وبكلمة مختصرة خدمة الوطن والمواطن وتنمية مشاعر المشاركة والوطنية وروح المواطنة والانتماء وقطع دابر الفقر والحاجة والفوارق الاجتماعية والمادية وما تسببه من أحقاد وفتن وقلاقل وأزمات.
ولا أنكر أبداً وجود بدايات خيرة في دول عربية عدة تمثلت في مساهمة أثرياء ورجال أعمال ومصارف وشركات في إقامة مشاريع ومؤسسات هدفها الصالح العام والمساهمة في تأمين التعليم المجاني والتداوي والعلاج لقطاعات واسعة من المواطنين، ولكن ما قصدته هو تحويل هذه المبادرات من خطوات فردية الى عمل منظم ونهج مستمر لا انقطاع فيه ولا مزاجية.
وقد سعدت كثيراً عندما تابعت إنجازات عدة وخطوات لتشجيع هذا الاتجاه أولها على لسان خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي وجه نداء بهذا المعنى ثم جاءت ترجمته في الاحتفال الذي رعاه الأمير سلطان بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي وأطلق فيه الدعوة للقطاع الخاص للعب دور مسؤول في خدمة المجتمع والإسهام في مشاريع هادفة ومنتجة. وتابعت مبادرات إيجابية عدة من بينها إعلان شركة الاتصالات السعودية عن تخصيص 100 مليون دولار لإقامة مشاريع إسكان لذوي الدخل المحدود وتأسيس جمعية في لبنان باسم «بادر» من جانب رجال أعمال شباب هدفها تقديم تسهيلات ورعاية ودعم لشبان متفوقين يرغبون بإقامة مشاريع خاصة صغيرة، ثم تابعنا ما قامت به المؤسسات والهيئات الخاصة خلال الحرب على لبنان وما قدمته للمنكوبين والمتضررين.
والمجال مفتوح لكل قادر لكي يقوم بمبادرات مماثلة لإقامة جامعات ومدارس ومستشفيات ومشاريع لمعالجة المدمنين ورعاية العجزة أو المساهمة في وقف نزوح الريف الى المدن عن طريق رعاية مشاريع صغيرة منتجة في القرى والبلدات تخلق فرص العمل والرعاية الاجتماعية والصحية وتحقق التوازن الاجتماعي والإنمائي وتؤمن العيش الكريم لقطاعات محرومة من المواطنين.
وعلينا أن نعترف ولو متأخرين بأن الدولة لم تعد قادرة على القيام بكل المسؤوليات الملقاة على عاتقها نظراً للظروف المعروفة، من دون أن نغفل تقصيرها في تحمل الكثير من واجباتها. والهدف من هذه الدعوة هو إحياء روح المشاركة للتخفيف من الأعباء أولاً وتأمين الممكن من الخدمات للمواطن وإعطاء كل صاحب حق حقه ومشاركة القادر في «الغرم» بعد أن غرف من «الغنم» حتى نصل الى هدف الانتقال من مرحلة الدولة الخادمة الى الدولة الراعية ومن قطاع المواطن الخادم للدولة والسلطة الى المواطن الفاعل والمشارك والمالك لمقدرات وطنه والمدافع عنها.
والدولة الراعية هي الدولة الحامية لسياج الوطن وحدوده وأمنه وأمانه والأمينة على مقدراته وثرواته والمحافظة على توازناته والمانعة لأي ظلم أو انتهاك أو حرمان تحت ظل سيادة القانون وميزان العدالة. وعندما يتحقق هذا الإنجاز نكون قد انتقلنا من العمل الخيري الفردي الى العمل الوطني المنظم ووضعنا أقدامنا في بداية طريق طويل لإعادة البناء على أسس سليمة ضمن رحلة الألف ميل.
كاتب عربي