جمال الجواهري
يلقي الامن الانساني بظلال كثيفة وابعادا مهمة تؤثر بقوة على مفاصل المجتمع السياسية والاقتصادية والصحية والبيئية والجندرية، ويمكن تحديد وقياس اهمية هذه الابعاد من خلال توفرها او تعرضها للفقدان او الاختلال
ومفهوم الامن الانساني يتعدى امن اراضي الدولة، ليصل للفرد ويضرب في عمق المجتمع، وتكون الجماعات التي تتعرض للتهميش والغبن والعنف والضعف محور اهتمامه الاول، وتحلل جميع اشكال الاخطار التي يتعرض لها الفرد وكيانه الاجتماعي وحرياته.
يترك فقدان الامن المجتمعي الانسان عرضة للتهديد والعزل وفقدان الشعور بالامان ويدفعه مع تزايد الخطر عليه باللجوء الى الجماعة او المنطقة او الدولة التي توفر له الحد الادنى من الامن المجتمعي.
تترافق عمليات السعي للجوء الى الملاذ الآمن غالبا مع تصاعد اعمال العنف وفقدان الامن المجتمعي، وتسارع حالات التهجير القسري واقتلاع الانسان من دياره، ومصادرة ممتلكاته وتزامنها مع اعمال عنف من خطف وقتل وتنكيل تضطر القاطنين بالمناطق الساخنة الى النزوح او الهجرة داخليا وخارجيا، وانتشار التيارات المتطرفة التي تصنف المجتمعات الى اعراق ومذاهب وقوميات!.
الهجرة والنزوح في العراق
ثمة اسباب تاريخية مختلفة عرفتها البشرية تقف وراء ظاهرة الهجرة والنزوح، كتغيير المناخ والكوارث الطبيعية او نضوب الموارد واعتداءات القبائل على بعضها البعض، ومن ثم الحروب والعنف والاعتداء على الحريات العامة، واصبح النفي والتغريب من العقوبات القاسية التي تؤثر على الافراد وتخل بعلاقتهم بوطنهم.
تعود مشكلة الهجرة والنزوح في العراق الى بداية الخمسينيات بعملية تهجير اليهود، وحقبة السبعينيات التي ابعدت السلطات فيها مئات آلاف العراقيين الذين لم يتمكنوا من الحصول على اوراق ثبوتية لتعقيدات اجراءات منح الجنسية امتدت الى نهايات الحكم العثماني، وتواصلت في الثمانينيات سياسات تهجير الكرد التي طالت مئات الالاف من مناطق سكناهم داخل العراق وخارجه وسعي الحكومة الى احداث تغييرات في التركيبة السكانية وخاصة مدينة كركوك، الى جانب تهجير مئات الاف العراقيين وخاصة الكرد الفيليين الى ايران بحجة تبعيتهم لايران. كما شهدت نفس الفترة حملة شرسة من اجهزة النظام الامنية ضد المعارضين السياسيين، وكان من نتائجها اضطرار اعداد كبيرة منهم للهجرة خارج العراق بينهم مثقفون وفنانون وعلماء . وفي التسعينيات مع فرض الحصار الاقتصادي وتدهور الاوضاع المعاشية والحياتية اضطرت الالاف من الكفاءات العلمية الى ترك العراق باتجاه الدول العربية وخارجها، وقبل سقوط النظام بلغت التقديرات بوجود اكثر من مليوني عراقي خارج العراق . وبعد سقوط النظام السابق العام 2003 وتدهور الاوضاع الامنية، والخوف من عمليات العنف والانتقام وما تلتها من انتشار المسلحين والمليشيات وتزايد العنف على اساس طائفي، تزايدت اعداد من تركوا العراق مضطرين، لتغادر اعداد كبيرة من الكفاءات العلمية من الاساتذة الجامعيين والاطباء والمهندسين والكفاءات الادارية والمالية، و تشير تقارير وزارة الصحة الى انه منذ نيسان 2003 وحتى ايار 2006 قتل 102 طبيبا عدا عن تعرض اضعاف هذا العدد الى الاختطاف والتهديد ما اضطر الاف منهم الى الهجرة والنزوح، خوفا على حياتهم وحياة عوائلهم.
ويعتبر العام 2006 ( وأثر تفجير مرقدي الامامين علي الهادي والحسن العسكري في 22 شباط) هو الاقسى والامر في عمليات الهجرة والتهجير القسري، وقدرت مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين العدد بمليونين وثلثمائة الف داخل العراق .
وتشير التقارير ايضا الى ان العراقيين هم الفئة الاولى في طلبات اللجوء في الدول الصناعية الكبرى في 2006 وبمعدل 8100 شهريا ، وفي داخل العراق اوردت تقارير موثوقة ان عدد المهجرين في مدينة كربلاء وحدها اقترب من 18 ألف عائلة ، و12 ألفاً في كل من صلاح الدين والنجف والانبار ومايقرب من 50 الفاً في كردستان العراق ماعدا الهجرة داخل مناطق العاصمة بغداد وفي المحافظات العراقية الاخرى .
وعلى الرغم من عدم توفر ارقام دقيقة لاعداد اللاجئين في الدول الاخرى، الا ان تقديرات مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين تقدر اعدادهم حتى كانون الاول 2007 باكثر من 4,4 مليون مهجر ( منهم 2,5 مليون داخل العراق)، ويعتقد ان الرقم الحقيقي اكثر من هذا، نظر لعدم تمكن او عزوف البعض منهم من التسجيل لدى وزارة الهجرة والمهجرين او الوكالات المختصة، وعلى اية حال فأن اعداد المهجرين تشكل مانسبته اعلى من 15 بالمئة من السكان، وهي نسبة عالية جدا، وتعتبر من اكبر عمليات النزوح والهجرة واسرعها في التاريخ الحديث.
واستوعبت سوريا العدد الاكبر من اللاجئين بمايزيد عن المليون، والاردن بنحو نصف مليون لاجىء، شكلوا في احيان كثيرة عبئا على البنى التحتية لهذه الدول، وخاصة في مجالات الصحة والتعليم والسكن، كما انه رغم الوعود التي قطعت لهما لم يصل الا الجزء القليل من الدعم للمساعدة في حل جزء من هذه المشاكل، ما دفع بهذه الدول الى تعقيد اجراءات دخول العراقيين لها . وفرضت البعض من السلطات المحلية في المحافظات قيودا على دخول النازحين اليها بما في ذلك دهوك واربيل والسليمانية، وفي محافظات اخرى فرضت قيودا تتعلق بتسجيل النازحين الجدد لدى دوائر وزارة الهجرة والمهجرين، وهذا ماحرم العوائل غير المسجلة من الاستفادة من البطاقة التموينية والتعليم والصحة وغيرها من الخدمات، على الرغم من صدور قرار تنفيذي من مجلس الوزراء في تموز من العام الماضي، الا ان الدلائل لا تشير الى تنفيذ هذا القرار في اي من المحافظات.
وترسم المتحدثة باسم الصليب الاحمر الدولي صورة سوداوية لواقع المهجرين عندما تقول: " الحياة اليومية كابوس للعراقيين وهذا مايدفعهم للفرار، ومن الصعب للغاية ما سيحدث لكنه يبدو قاتما ، ومانشاهده هو بوضوح وضع انساني متدهور ".
اما المتحدثة باسم مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين فانها تؤشر ملامح قاتمة اخرى "يفر الكثير من العراقيين من المناطق متعددة المذاهب حتى قبل ان يجبروا على ذلك ، نتيجة لاعمال العنف ... ولم يعد الاطفال يذهبون الى المدارس ...وآباؤهم عادة لايجدون عملا .. عدد الاطفال المشردين الذين يجوبون الشوارع في تزايد . عمال الاطفال في ازدياد . هناك اطفال يجمعون القمامة ".
وتأثرت الاقليات الدينية كالمسيحيين والصابئة والشبك وغيرهم بعمليات التهجير والنزوح، واصبحوا عرضة لاعمال العنف والتهديد الشخصي، وتعرضت اماكن العبادة الخاصة بهم في البصرة وبغداد ومناطق اخرى للاعتداء، ويقدرعدد العوائل المسيحية النازحة الى نينوى فقط بما يزيد عن عشرة الاف عائلة، اضافة الى الاف آخرين نزحوا الى اربيل في كردستان العراق. وشملت عمليات التهجير والنزوح الالاف من الفلسطينين المقيمين في العراق بعد ان تعرض الكثير منهم الى الاعتداء من قتل وخطف بحجة ولائهم للنظام السابق، وعلى الرغم من الوعود لاستيعابهم داخل العراق وخارجه الا انه لم يتحقق من هذا الا القليل. كما كانت النساء هدفا اخر للعمليات الارهابية من قتل وخطف وتنكيل وفرض قسري لارتداء الحجاب، وتقييد حركة النساء وظهورهم في الحياة العامة.
أسباب الهجرة والنزوح
تقف مجموعة من الاسباب تدفع المواطنين الى ترك اوطانهم او مناطق سكناهم، ليصنفوا تحت اسماء المهجرين والنازحين .
* الطائفية ـ تعتبر الطائفية التي انتهجتها الجماعات والمليشيات المسلحة السبب الرئيس لمعظم عمليات التهجير القسري والنزوح الداخلي والخارجي وماسبقها من اعتداءات بالقتل او الخطف والتهديد وشكلت نسبة تفوق 90 بالمئة في بعض المناطق.
* العنف ـ مصادر العنف في العراق متعددة الاوجه، ولكل منها دافع تبعا للمواقف المتباينة للجماعات المسلحة والمليشيات من جهة والمجتمع من جهة اخرى، وتأتي هذه المصادر من الجماعات المسلحة والمليشيات باشكالها ومسمياتها المختلفة، والقوات الحكومية، القوات المتعددة الجنسية.
ومارست المليشيات والجماعات المسلحة العنف باشكاله المختلفة وفرضت نظامها بعيدا عن سيطرة الاجهزة الحكومية وقوانينها. كما تشير تقاير بعثة الامم المتحدة في العراق الدورية الى ممارسة القوات الحكومية والقوات المتعددة الجنسية الكثير من الاذى والاعتداء بحق المدنيين خلال العمليات العسكرية او خارجها او كحوادث فردية كقتل المدنيين الابرياء وتهديم البيوت، ما اضطر عددا كبيرا من السكان للهجرة من مناطقهم.
* الرأي والعقيدة والثقافة ـ اجبرت القوات والجماعات المسلحة المسيطرة والمتسلطة على المناطق على تهجير والاعتداء على من يختلف معهم بالرأي او بالعقيدة ، فيما اضطر الغالبية على عدم الادلاء بارائهم بحرية، كما اغلقت فصائل مسلحة متشددة وفي مناطق نفوذها النوادي الثقافية والفنية ومحال بيع الاقراص السينمائية والغنائية.
تعدد الصعوبات والمشاكل
يتسبب ترك الوطن او المدينة او الحي مشاكل انسانية واقتصادية متنوعة، ويحول حياة اسرة كانت تعيش بأمان الى كابوس مرعب، ويعاد ترتيب سلم متطلبات الحياة الى الضرورات التي تحافظ على ديمومة مجرد البقاء احياء، وتتلخص الصعوبات الرئيسة للتعرض للتهجير او النزوح:
* فقدان الدخل : تؤدي الهجرة والنزوح الى فقدان العوائل لمصادر دخلهم ومجالات عملهم، وتجبر المهجر او النازح على التنافس مع سكان المنطقة الجديدة، والقبول باعمال ادنى اجرا ودون مستوى كفاءته، او العمل دون علم السلطات كما في بعض الدول التي لجؤوا اليها، اضافة الى سرقة بعض مدخراتهم او معظمها واجبار غالبيتهم على ترك ممتلكاتهم قبل التهجير والنزوح .
* ترك التعليم: الابتعاد عن نمط الحياة الاعتيادي يؤثر على مواكبة الاطفال للتعليم لاسباب مختلفة منها مادية او قدرة المدارس الاستيعابية او رداءة المؤسسات التعليمية في المخيمات خاصة، فمثلا مايقرب من 50 بالمئة او يزيد لايلتحق كل اطفال العائلة او بعضها في المدارس ( دراسة عينية اجرتها جمعية الامل في 3 محافظات داخل العراق - كربلاء وصلاح الدين ونينوى).
* تدهور وانعدام الخدمات الصحية والبيئية: تشكو معظم مناطق المهجرين التي تشكل بشكل اعتباطي وخارج قدرات مؤسسات الدولة المنهكة من فقدان ابسط مقومات الرعاية الصحية .
* السكن: من المقومات الرئيسة للعيش الامن والصحي هو السكن، وبالتالي فأن كل اللاجئين او النازحين فقدوا سكناهم ومعظمهم تحول الى السكن في ظروف اقل من وضعه السابق والغالبية في ظروف صعبة ( اكثر من 3 اشخاص في الغرفة الواحدة - الدراسة السابقة ) عدا عن سكن البعض 6-8 اشخاص في خيمة واحدة .. كما ان الكثير من السكن القديم تعرض اما للنهب او التدمير وحتى الحرق.
* العوامل النفسية: الغربة والخوف والقلق من المجهول والغبن والشوق للوطن وافتقاد الاهل والاقارب والجيران والحاجة للتعود على حياة جديدة كلها عوامل تؤثر على نفسية اللاجيء او النازح .
التعامل مع المشكلة
على الرغم من ضخامة المشكلة وتزايد خطورتها والسرعة بتطورها الا ان جهود الحكومة العراقية لم تكن بالمستوى الذي تتطلبه خاصة من حكومة منتخبة، وهذا يشمل عدم توفر اماكن آمنة للنازحين داخليا، وضعف الدعم للمحافظات المستضيفة لهم وخاصة المؤسسات التعليمية والصحية والخدمات البلدية من ماء ومجاري وتبليط شوارع وغيرها والكهرباء، اضافة الى عجز الميزانية المخصصة لوزارة الهجرة والمهجرين لتلبية ابسط متطلبات النازحين، مع التلكوء بتسجيلهم في دوائر الوزارة كي يتمكنوا من الحصول على الحد الادنى من الخدمات والمساعدات ناهيك عن ايقاف عمليات التسجيل هذه في اوقات مختلفة ولمدد طويلة.
والمنظمات غير الحكومية على الرغم من حداثتها، الا انها حاولت وبجهود وامكانيات ضعيفة للتخفيف من معاناة النازحين الا ان هذه الجهود لم تصل الا الى عدد قليل منهم بسب من تدهور الوضع الامني وصعوبة ايصال المساعدات لمحتاجيها كما ان الدعم الدولي لها محدود جدا . كما ان الامم المتحدة والمنظمات الدولية تعاملت مع المشكلة متاخرأ ومع تدهور الوضع الامني جعل من حركتها صعبة اذا لم نكن مستحيلة . كما ان الاجراءات غير السريعة لعملها والبيروقراطية عند البعض لم تنتج عملا يسد الحاجة ، كما ان المساعدات المقدمة لم تكن دائما نتيجة دراسة حقيقية للاحتياجات .
دروس للمستقبل
ان اي جهد للتقليل من معاناة اللاجئين والنازحين يفترض ان يستند الى تقييم حقيقي للاحتياجات وبشراكة حقيقية بين الحكومة ومنظمات الامم المتحدة والمنظمات غير الحكومية المحلية والاجنبية، وبالاعتماد على المجتمعات المحلية لغرض ديمومة واستمرارية عملية المساعدات . وهذا يتطلب ايضا تنمية قدرات المنظمــات غير الحكومية المحلية والمجتمعات المحلية.
* اشراك الشباب في عملية البناء عبر برامج لتقوية امكانياتهم وتوسيع مداركهم وتوعيتهم على لعب دور في نبذ العنف وحل المشاكل بالطرق السلمية لتجنب اشراكهم في النزاعات والعمل المسلح.
*اثبتت التجارب ان عدم الربط بين عملية الاغاثة والتنمية عبر برامج التنمية المستدامة يؤثر سلبا على استقرار المجتمعات، ويعيد بسرعة عودة الصراعات والازمات التي تصاحبها، لان استخدام موارد المساعدات بطريقة عقلانية يساعد على استقرار المجتمع .
* يجب ان تشمل عمليات المساعدات توفير الخدمات الاساسية كالغذاء والصحة والتعليم والخدمات الاخرى كالكهرباء والماء والسكن وتوفير الملاذ الامن لهم .
* الكوارث الانسانية تؤثر مباشرة وبشكل اكبر على النساء والاطفال، وتعد عمليات حمايتهم وتقديم افضل الخدمات لهم من الاولويات، ومسألة ضرورية وغير قابلة للنقاش.
* التركيز على التوعية باتجاه اشاعة ثقافة احترام حقوق الانسان وحل النزاعات، والسعي لتحقيق مشاركة جماهيرية واسعة في العملية السياسية والتحول نحوالديمقراطية.
* يجب ان تمتد اعمال التنمية والاغاثة الى جميع فئات ومفاصل المجتمع وبدون استثناءات، وان تتحلى بالشفافية اداريا وماليا، وتخضع الى معايير اختيار المستفيدين ومعايير الشراكة (مجتمع مدني، حكومة، قطاع خاص ... وهكذا).