بغداد - كاظم الحسن- الصباح
السلام والتسامح والحوار والاعتراف بحقوق الاخر هي قيم مدنية حديثة، انبثقت عن العقد الاجتماعي كما يذهب بعض الباحثين في ذلك، ولعل الديمقراطية كان لها مفعول سحري في اعادة المركزية للانسان بما هو انسان وليس هويته هي التي تحدد وجوده هذا الاكتشاف - ان جاز التعبير - يعادل ما انجزته البشرية من علوم وتقنية، لانها اللجام الذي يمنع الانسان من اطلاق غرائزه العنيفة في لحظات الهياج والهوس التي تنتابه وذلك من خلال نظام المؤسسات.
اللاعنف هي فلسفة تتحدد عبر محاور عديدة تحكم فيها سلوك الانسان وافعاله، ففي مجال السياسة، هو الاعتراف بالمعارضة وتداول السلطة واحترام القانون، وفي المجال الاجتماعي هو اقامة علاقات افقية وليست هرمية قائمة على النقد والتساؤل والاعتراف بالآخر بصرف النظر عن هويته، وفي المجال النفسي هو العناية بالطفولة وعدم استخدام العنف والقمع والتنكيل واحترام ارادة السؤال، لان ذلك يعبر عن عالم الطفولة الطري والمدهش والغامض ولا بد من احترام عقليته والتعامل معه باحترام وتقدير من دون المس بآدميته.
- تفريغ العنف
يقول الدكتور فارس شاكر استاذ علم النفس، كلية الآداب، جامعة بغداد: ان الدول المتقدمة لديها القدرة على تفريغ العنف وتحويله بالاتجاه الآخر، كأن تكون الرياضة، السينما ، المنتدى، اذ ان ثقافة اللاعنف تقوم على اساس التأهيل للفرد وتغليب الحوار من خلال الجانب المدني وليس العسكري الذي يميل الى الحسم.
واكد اهمية دور الطفولة بوصفها الخزان الاكبر الذي ينطلق منه معظم سلوك الانسان، حيث تمتاز هذه المرحلة بالدهشة والعفوية وحب الاستطلاع والرغبة القوية التي تنتاب الطفل لمعرفة العالم الذي يعيش فيه.
ان نظرية التعلم هي نتعلم من سلوك الاخرين ونكتسب عادات نتعلم منها، وقام احد الباحثين بهذا المجال بعرض فيلم يحتوي على مشاهد عنف تتمثل في ضرب الدمية، وعندما شاهد الاطفال ذلك قاموا بتقليد ذات الادوار التي شاهدوها.
ولدينا شخصيات اعلامية وسياسية وادبية تميل الى اعتماد لغة الحوار والتفاهم والتواصل والاعتدال والتهدئة، ولا بد من وجود شخصية يقتدى بها، نحن نفتقد الى النموذج المشترك المعاصر الذي هو القدوة في حياتنا.
والعنف داخل في تكوين الشخصية، من خلال اعتمادها اساليب حادة وانفعالية في تعاملها مع الاخرين، وقد يكون فشل تجربة الكاميرا الخفية في العراق يعود الى استيطان الشخصية للعنف ولذلك لا بد من توظيف تلك الطاقة الخلاقة ان استثمرت بالاتجاه الصحيح فأن نتائجها سوف تكون مفيدة وذات قيمة للمجتمع.
ان العنف فيه جانب بايلوجي "الوراثة"، وبعض الادوية تؤدي الى سلوك العنف، وقد تكون بعض الحوادث التي تصيب الدماغ، او صدمات نفسية، والكثير من الامراض اسبابها نفسية او ضغوط اجتماعية، تتمثل في الاحباط والفشل والخوف والتردد بعد ان يصبح لديه حاجز نفسي يعمل على تحقيق الهدف البديل.
والعامل المشجع على العنف، هو الحروب، ونحن مررنا بحروب كثيرة جعلت الفرد يميل الى الحسم العسكري واستعمال القوة في مجالات الحياة كافة من دون النظر الى الاساليب المدنية في التعامل مع مشاكل الحياة وهمومها وتداعياتها، ولذلك لا بد ان تكون هنالك دورات تأهيلية لمن يدخلون الحروب، لانه اسقاط ما اصابهم في تلك المشاهد الاليمة على الخارج سوف يكون الدافع القوي والاساس، وحتى في الحياة العادية نرى من يكره المدير يعمل على تخريب ممتلكاته، وكذلك من يحمل مشاعر الكراهية والعنف اتجاه الدولة يعمل على تحطيم وتخريب ممتلكاتها ولا يشعر بالذنب من ذلك السلوك، لانه بذلك يفرغ شحنات العدونة المترسبة في نفسه حيث ان العدوان يتسع مثل النار حين نفتقد السيطرة عليها تمتد الى ابعد مكان.
ومن النتائج السلبية التي تصيب الفرد، وتترك آثاراً نفسية مدمرة في بنيته النفسية، هي نوع التربية التي يتلقاها، فعندما كان النظام السابق يقوم بتدريب ما اطلق عليه "اشبال صدام" بافتراس الحيوانات، انما كان ذلك ينمي في نفوسهم العنف والعدوان والقسوة.
ومن اجل خلق حياة سوية لا بد ان تكون العقوبة في قوانين علم النفس في مستوى مقبول وضمن ضوابط السرية متعارف عليها ويجب ان لا تكون العقوبة اكبر من الجناية، المدرسة السلوكية لا تعاقب الطفل وانما تبعد عنه المكافأة "ايتها الام بدلاً من ان تتركي اربعة اصابع في وجه ابنك عليك ازاحة الوجه عنه " وازاحة الوجه، هو الحرمان العاطفي والاجتماعي.
وعلينا ان نشجع الاطفال على الهوايات المتعددة التي تنمي مجموعة من الملكات لدى الفرد الى جانب القراءة، الرياضة، الجانب هندسي، التصميم ونحوها وهي دعوة للمربين في زيادة المواهب وتشجيعها لدى الاطفال من اجل المحافظة عليهم وحمايتهم وربما ان الفشل في احداها يسبب مشاكل نفسية كبيرة.
- نظرية البطل
اشار الباحث والاكاديمي "علاء الصفار" الى تلون التاريخ بالدم، وان مقولة موسوليني "الدم قابلة التاريخ" تثبت ان الحروب والقوة هي التي تحكم التاريخ، وان عددا من النظريات هي التي تعطي الشرعية لهذا الحاكم او ذاك، نظرية العقد الاجتماعي نظرية التفويض الالهي، نظرية البطل، البطل يختزل الامة، ويعتمد على ما يسمى بالقائد لضرورة، "ماو" الزعيم الشيوعي الصيني الراحل، جاء للتعبير عن الامة.
اذا كانت الامة حية فأنها تعبر الى الضفة الاخرى وحين لا تتوفر القوى الروحية الناهضة، في الامم وتستسلم للخرافة والاسطورة، فانها لا تستطيع ان تسلك التاريخ.
نجد تعابير كثيرة لتصوير ذلك، التاريخ كاذب او محرف او يصنعه الاقوياء، وهو الى حد ما، يصب في هذا الاتجاه، حيث ان الكتاب والمؤرخين، هم الذين كتبوا التاريخ لصالح السلاطين. واكد الباحث على دور المنهج الذي ينظر به الى التاريخ، القومية وجدت نفسها منخرطة في مشروع الدم وهذه الذات الكلية سوف تكون متعالية لا ترى سوى نفسها بنرجسية متعالية.
الامبراطورية الرومانية اهتمت بالبطولة الفردية، والمبارزات من اجل اثبات الذات الرومانية المتأصلة بثقافة الامبراطورية كدولة رومانية بحتمية البقاء والوجود.
وكان من تقاليد الولادات في الامبراطورية الرومانية انهم يضعون الطفل في حاويات تحتوي سوائل ومن يكتب له العيش باذلاً جهداً ليطفو، فهو من سلالة الاقوياء ليسعد بالحياة الرومانية، ومن كان على العكس يغطس فهو من الضعفاء ويجب التخلص منه على غرار وأد البنات في الجاهلية عند العرب.
ان ثقافة القوة عند العرب الخوف من العار الذي قد يلحق القبيلة نتيجة اسر البنت او احتجازها من قبيلة اخرى.
العوامل الاقتصادية التي تصنع التاريخ وعوامل اجتماعية تفرزها تطورات الحياة.
يبقى التاريخ في نظرياته هو سجل للذاكرة الجمعية للشعب واهم مابه، اننا نحتاج منه الى العبرة كحكمة على تجاوز العقبات والمطبات الحاضرة للوصول الى مستقبل افضل.
عندما يكون التاريخ خاضعا للقوة، والحاكم هو الممثل لتلك القوة، يصبح من يقف في وجهه هو الخصم او العدو وليس ما يسمى بالمعارض، حيث ان النظام اذا كان من صنع وانتاج البشر يكون به هامش معارضة، قد تكون بطريقة سلسة او ثورية، التاريخ الوسيط كان يعمل بنظام الخلافة او التفويض الالهي ولا يسمح بنظام المعارضة، وهنا تنتقل المعارضة الى الجانب القدسي حيث معارضة الحاكم، هي معارضة الله.
وهنا تم ادراج جميع الحركات المعارضة التي طالبت بانصاف الفقراء والفلاحين من استغلال الدهاقنة وجباة الضرائب والاجحاف الذي لحق المسلمين الموالي من جراء تعسف الولاة والعمال فتم تصنيف تلك الحركات تحت طائلة الزندقة والخروج على الاسلام كالقرامطة والخرمية في أذربيجان او ثورة الزنج في البصرة ومما ادت الى استقلال الطولونيين في مصر بسبب التعسف في قراءة الاوامر والنواهي من وجهة نظر الخليفة "الحاكم بامر الله".
وقد كان لسيادة ثقافة القتال كابرز سمة في حياة الامبراطورية ورسوخ قواعد المبارزة واخلاق المجالدين والمحاربين حتى الموت حتى صارت هياكل الاعمدة الحقيقية في بقاء الامبراطورية ليس ضد اعدائها وانما هو قدر محتم وقوى روحية كامنة داخل التركيبة السايكولوجية للشعب الروماني.. الذي وصلت فيه برفض اخلاق القوة في التبني السري للمسيحية التي كانت ديناً سرياً حتى تم الاعتراف بها من قبل الامبراطور قسطنطين الذي كان بموجب ذلك ان انتشرت فيها المسيحية في اوساط شعوب الامبراطورية كتعبير عن التسامح مقابل العنف والقوة، وقد عد هذا واحداً من اكبر اسباب انهيار الامبراطورية بعد ان انتشر التسامح والحب محل ثقافة الكراهية والمجالدة والمقاتلة فخارت قواها وذهبت روابط الولاء الى الامبراطور والفروسيه الى رفض العنف.
وقد اشر التنويري توما الاكويني ذلك، بعد ان حلت العقيدة الدينية محل الوثنية السائدة.. وهكذا كان الحال في القرن الاول والثاني الهجري بظهور الافكار النيرة للمعتزلة في الكوفة والبصرة التي واجهتها سيوف القصور والسلطان لتحد منها وتجتزئها او تجيرها لصالح الخليفة بسبب سيادة اخلاق قوة الفتح والتوسع التي ترى بالتنوير تمهيداً للتخريب الذي عمرته رساميل الفتوحات وغنائم جيوش الفتح المبشر بالجنة.
- الارادة الثقافية
اعرب الكاتب راسم قاسم عن قناعته في قدرة المجتمع العراقي، في اقامة ثقافة اللاعنف والتسامح لانه لا يختلف عن المجتمعات الاخرى ويتقبل التحضر والثقافة وليس مجبولاً اصلاً على العنف لانه مكتسب.
وقد فرضت ممارسات وسياسات متعاقبة جعلت منه يتحرك بمساحة واسعة من العنف سببها اجندات سياسية ومثيولوجية خلقتها تربية اجتماعية معينة لذا يمكن انحسار هذه الموجة المصطنعة اذا توفرت ارادة ثقافية من قبل المثقفين والمفكرين في البلد.
وقد يكون التعصب متأت من طروحات فكرية تأصلت في نفسية اغلبية الشعب العراقي اخذت تقودهم الى هذه المهاوي والمنحدرات لذا بمجرد ازدياد الوعي الثقافي تصبح هذه الامور مثل التعصب العرقي والطائفي والديني اموراً سطحية يمكن تجاوزها واستبدالها بثقافة الايمان بالحس الوطني والايمان بالعراق كوطن يستوعب كل مكونات الشعب ويكون فيه الاخلاص للوطن هو المعيار الاساس وليس الاخلاص لفئة او طائفة لاننا جربنا على مدى اربع سنوات ولمسنا الولاءات الطائفية والعنصرية وهي ادت بنا الى الدمار وتخريب البلد. التاريخ الذي كتب في ظروف معينة يشجع على العنف وسفك الدماء ونحن لا نستطيع استبدال او اعادة كتابة التاريخ كما فعل النظام المقبور ولكن يمكن النظر للتاريخ كتاريخ فقط وان لا نسمح لاحداثه ان تؤثر في نظرتنا للمستقبل.ان الذي يحدث الان هو تسيد التاريخ وتدخله المباشر في مجمل حياتنا ونحن نعلم ان التاريخ متناقضات حادة فرضتها ظروف معينة في وقتها ولكن مع الاسف ان التعصب يحاول ان يختبئ خلفها لغايات نفعية او مآرب اخرى تحقق له مكاسب سلطوية ومالية. لذلك ان تنتبه الجهات التربوية التي بيدها قيادة الاجيال المقبلة الى هذه الناحية بحذر شديد عند تأليف الكتب التربوية والتاريخية منها بالذات وان تتحلى بروح الشفافية والموضوعية وبث وغرس روح التسامح وحب العمل والوطن بدلاً من تشجيع النعرات الحادة التي تتقاطع مع بعض التوجهات المعاكسة ويجب ان تكون المناهج التربوية معتمدة على العملية والوضوح والايجابية والحث على حب السلام والابداع والخلق ومحاولة الوصول الى مصاف دول كبرى. يستطيع العراق من خلال اجياله المقبلة ان يتخطى الامراض التي اغرقته بالعنف والدماء، ونتطلع الى عالم يسوده السلام وكرامة الانسان.
للمزيد اضغط على الرابط التالي:
للمهتمين بنشر وتعميق ثقافة اللاعنف