This site uses cookies for analytics and personalized content. By continuing to browse this site, you agree to this use.
We have updated our Privacy Notice, click here for more information Acknowledged

مسارات العلاقة بين المجـتـمـع المدنـي والدولة
23/07/2008

 

شمخي جبر- الصباح
استعمل مفهوم المجتمع المدني في الفكر الغربي منذ النهضة الى القرن الثامن عشر؛ للدلالة على المجتمعات التي تجاوزت حالة الطبيعة والتي تأسست على عقد اجتماعي وحد بين الافراد وافرز الدولة

وهو كل تجمع بشري خرج من حالة الطبيعة ( الفطرية) الى الحالة المدنية التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على اتفاق تعاقد، فنجد ان المجتمع المدني عند توماس هويز (هو المجتمع القائم على التعاقد) اما جون لوك فقد اعتبر الحكم المطلق لايتفق مع طبيعة المجتمع المدني وانما يجوز برأيه عزل السلطة اذا اخلت بنصوص العقد وبهذا جعل لوك المجتمع مصدر شرعية الدولة فيما يرى جان جاك روسو  ( ان السيادة لايمكن ان تكون موضوع تفويض، بل يمكن انتقالها، ولا يمكن ان يتنازل الشعب عن السيادة والحكم).
ومن جانب اخر، فاذا كان هناك القطاع الحكومي (القطاع العام ) وقطاع الاعمال (القطاع الخاص) فان المجتمع المدني هو القطاع الثالث ،او قد يسميه البعض ،السلطة الخامسة، حين نذكر السلطات (التشريعية والتنفيذية والقضائية والسلطة الرابعة التي هي الاعلام )فان المجتمع المدني يعد السلطة الخامسة،والمجتمع المدني هو قطاع طوعي غير ربحي ، اذ لايسعى الى الربح كالقطاع الخاص او مايسميه البعض قطاع الاعمال ،كذلك فانه يختلف عن  المجتمع السياسي واطار قراراته ،اذ يتمتع بالاستقلالية والحرية، وشرط المجتمع المدني ان يكون مستقلا  استقلالا كاملا عن السلطة، لانه مجتمع مدني وليس مجتمعا سياسيا، فالمجتمع السياسي هو السلطة ومؤسساتها.
اقترحت الندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت 1992 تعريفا للمجتمع المدني: هو مجموع المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدول لتحقيق أغراض متعددة، منها أغراض سياسية كالمشاركة في صنع القرار على المستوى القومي ومثال ذلك الأحزاب السياسية، ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة، ومنها أغراض مهنية كما هو الحال في النقابات للارتفاع بمستوى المهنة والدفاع عن مصالح أعضائها، ومنها أغراض ثقافية كما في اتحادات الكتاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي وفقا لاتجاهات أعضاء كل جمعية، ومنها أغراض اجتماعية للاسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية.
وبالتالي يمكن القول أن الأمثلة البارزة لمؤسسات المجتمع المدني هي: الأحزاب السياسية-النقابات المهنية-النقابات العمالية-الجمعيات الاجتماعية والثقافي.فيما يرى تركي الحمد ان المجتمع المدني هو (تلك المؤسسات والأفراد الذين يعملون بشكل تطوعي خارج إطار القرار السياسي وخارج إطار الدولة وخارج إطار قطاع الأعمال، ويسمونه القطاع الثالث الذي يعمل بنوع من التطوعية والحرية... الحرية، بدون وجود الحرية في مجتمع معين فأنت لاتستطيع انشاء مجتمع مدني معين، مجتمع مدني معين يعني ان كل الأفراد لهم الحق في التجمع في التعبير عن الرأي في التعبير عن المصلحه واشياء من هذا النوع وفق مؤسسات معينة. هذه الأشياء غير موجودة لدينا حالياً، هذا بالتالي جزء مما أعنيه بالبنية التحتية السياسية، ليمكن ان تكون هناك ديمقراطية فاعله دون مجتمع مدني قوي. سبب إنتكاس بعض الديموقراطيات في دول العالم الثالث هو عدم وجود مجتمع مدني، والمجتمع المدني يحتاج إلى فكرة الحرية..... الحرية المطلقة في أن يقوم الأفراد والجماعات في التعبير عن أنفسهم و مصالحهم، هل هذا موجود؟..إن لم يكن موجودا فيجب إيجاده لكي تكتمل البنية التحتية الموصلة

للاصلاح والتحديث).

الدولة والمجتمع المدني
 لقد مثل المجتمع المدني لدى هيغل الحيز الاجتماعي والأخلاقي الواقع بين العائلة والدولة، وهذا يعني أن تشكيل المجتمع المدني يتم بعد بناء الدولة، وبذلك فهيغل لم يجعل المجتمع المدني شرطاً للحرية أو إطاراً طبيعياً لها، إذ المجتمع المدني بالنسبة إليه هو مجتمع الحاجة والأنانية، وعلى هذا فهو في حاجة مستمرة إلى المراقبة الدائمة من طرف الدولة، وبذلك تتحول علاقة المجتمع المدني بالدولة مع هيغل إلى علاقة يتحول كل من طرفيها إلى مركب مكون للطرف الآخر مع اعتبار الدور المركزي للدولة على تأسيس المجتمع المدني وتركيبه، أما ماركس فقد نظر إلى المجتمع المدني باعتباره الأساس الواقعي للدولة، فالمجتمع المدني عند ماركس هو مجال الصراع الطبقي، وهو يشكل كل الحياة الاجتماعية قبل نشوء الدولة ويحدد المستوى السياسي، أو الدولة.
 وعلى الرغم من أن غرامشي حاول أن يجدد النظر إلى المفهوم ضمن الحقل الماركسي نفسه عندما رفض اعتبار المجتمع المدني فضاء للتنافس الاقتصادي مثلما يعتقد هيغل وماركس واعتبره حقلاً للتنافس الأيديولوجي،وهو لذلك جزء من البنية الفوقية،هذه البنية تنقسم بدورها إلى مجتمع مدني ومجتمع سياسي، وظيفة الأول الهيمنة عن طريق الثقافة والأيديولوجيا، ووظيفة الثاني،الدولة ،السيطرة والإكراه.

وفي الارث الحضاري العربي غالبا ماتكون العلاقة بين الدولة العربية والمجتمع المدني علاقة يسودها التوتر والتنازع لتتأسس ثنائية ليست تصالحية كما وجدنا في الفكر الغربي وإنما صراعية تقوم على الإلغاء المتبادل، يسعى كل طرف إلى إثبات وجوده عن طريق توجيه ضربات متتالية إلى خصمه، فهل يمكن لنا الانتقال إلى صيغة متوازنة بين الطرفين) لهذا  يسعى البعض الى وضع منظمات المجتمع المدني بالضد من الدولة ووجودها وكأن المجتمع المدني بديلا عن الدولة الا ان مايجب الانتباه اليه ان مؤسسات المجتمع المدني لا تستهدف قلب النظام، وانما تستهدف رعاية مصالح المجتمع والحد من تسلط الدولة على تلك المصالح. ومؤسسات المجتمع المدني يستفاد منها في الدول المتقدمة من اجل ممارسة التطوير والإصلاح المستمر للدولة. ولهذا فإن "تسييس" المؤسسات المدنية يجعلها وجهاً لوجه مع مؤسسات الدولة. الدولة التسلطية تسعى دائما الى المحافظة على التضخم السلطوي لديها،اذ انها ترى ان المجتمع المدني يخفف من تسلطها ويضعف بنيتها التسلطية.ويخفف من استبدادها وضغطها على المجتمع.اذ ان البعض يعتبر المجتمع المدني ومنظماته وسادة لامتصاص بعض هيمنة الدولة وتسلطها.فالمجتمع المدني الحيوي هو الرادع الحقيقي "لتسلط" الدولة على المجتمع. فالدولة التي تسعى لتركيز استقرارها وأمنها تسعى باستمرار لممارسة الضغوط التي تزداد لتصبح "تسلطا" مع الأيام، ودكتاتورية، وشمولية خانقة لكل النشاطات الاجتماعية. اذن المجتمع المدني يراد منه خلق التوازن بين سلطة الدولة وحقوق المجتمع. ولهذا فإن الدول المتقدمة المستقرة تعتمد في استقرارها الاجتماعي على حيوية "المجتمع المدني" الذي لا يأتمر بالدولة، ولكنه يلتزم بحكم القانون والدستور الذي ينظم العلاقة بين المجتمع المدني والدولة ومؤسساتها.
ولابد من التنبيه الى مسألة مهمة وهي ان هناك الكثير من الاراء التي تحاول ان تجعل المجتمع المدني بديلا عن الدولة في محاولة لاستنساخ بعض الافكار الاغربية بهذا الاتجاه، اذ ان المجتمع المدني لدينا لم يصل الى مرحلة النضوج والاكتمال،ومقولات من هذا النوع تجعل الدولة تسحب يدها من الكثير من الانشطة في مرافق الخدمات مثلا والقاء اعبائه على منظمات المجتمع المدني،وحين  ترفع الدولة يدها عن هذا الدور وغيره لانجد بديلا عنها ،وفي هذا المجال قد تستهل الدولة هذا الامر لانه سيخلصها من التكاليف الخاصة بالخدمات وماترافقه من اعباء مالية.

المجتمع المدني والتحول الديمقراطي
لايمكن للمجتمع المدني ومنظماته ان تولد او ترى الحياة من دون توفر فضاء الحرية الذي يستطيع من خلاله ان يعبر عن صوته  ووجوده ومصالح فئاته التي يستهدفها، ولايمكن اقامة نظام ديمقراطي من دون مجتمع مدني فاعل .
و يقترن مفهوم المجتمع المدني وتطوره عبر التاريخ بالتحولات الديمقراطية، اذ ان لاتحولات ديمقراطية من دون وجود مجتمع مدني، ولاوجود للمجتمع المدني من دون الديمقراطية، اذ ان الفضاء الديمقراطي هو الواقع الموضوعي لولادة ونمو المجتمع المدني، يقول محمد عابد الجابري (تطور مفهوم "المجتمع المدني" في التاريخ الأوروبي الحديث إلى أن هذا المفهوم كان يتحدد بثلاث دلالات ترجع إلى اعتبارات ثلاثة: باعتباره البديل لسلطة الكنيسة على المجتمع من جهة، والبديل لسلطة الدولة الإمبراطورية التي قوامها ثنائية الراعي والرعية من جهة ثانية، والبديل لهيمنة الأسرة التي تتمثل في الأب الذي يتحول في النظام الأبوي البطريركي إلى شيخ القبيلة، من جهة ثالثة. يعني في تصور النخبة التي ترفعه شعارا : البديل عن المجتمع الذي تهيمن فيه أفكار وتطلعات "رجال الدين" من جهة، والبديل عن سلطة الدولة الاستبدادية الشمولية من جهة ثالثة، والبديل عن النظام القبلي والمجتمع الطائفي الذي تكون فيه الكلمة العليا لشيخ القبيلة أو رئيس الطائفة) اذ ان المجتمع المدني هو حاضنة القيم الديمقراطية ومتبنيها والأرض الخصبة لاستنباتها وهذا مايؤكد عليه الباحث عبد الغفار شكر الذي يشير الى الصلة القوية بين المجتمع المدني والتحول الديمقراطي، فالديمقراطية مجموعة من قواعد الحكم ومؤسساته التى تنظم من خلالها الإدارة السلمية للصراع فى المجتمع بين الجماعات المتنافسة أو المصالح المتضاربة، وهذا هو نفس الأساس المعيارى للمجتمع المدنى حيث نلاحظ أن مؤسسات المجتمع المدنى من أهم قنوات المشاركة الشعبية، ورغم أنها لا تمارس نشاطا سياسيا مباشرًا وأنها لا تسعى للوصول إلى السلطة السياسية إلا ان أعضاءها أكثر قطاعات المجتمع استعدادا للانخراط فى الأنشطة الديمقراطية السياسية، وبالإضافة لهذا فإن الادارة السلمية للصراع والمنافسة هى جوهر مفهوم المجتمع المدنى كما استخدمه منظور العقد الاجتماعى وهيجل وماركس ودى توكفيل وجرامشى. وكل ما فعله مستخدمو المفهوم من المحدثين هو تنقيته أو توسيع نطاق مظاهره فى المجتمعات المعاصرة المعقدة. والمجتمع المدني هو المدرسة التي يتلقى الافراد فيها القيم الديمقراطية ليصبحوا مواطنين، ويمارسوا داخل منظمات المجتمع المدني الممارسات والسلوك الديمقراطي، ومن هنا فأن الباحث عبد الغفار شكر يقرر انه ولا يمكن تحقيق الديمقراطية السياسية فى أي مجتمع مالم تصير منظمات المجتمع المدنى ديمقراطية بالفعل باعتبارها البنية التحتية للديمقراطية فى المجتمع بما تضمه من نقابات وتعاونيات وجمعيات أهلية وروابط ومنظمات نسائية وشبابية.. الخ. حيث توفر هذه المؤسسات فى حياتها الداخلية فرصة كبيرة لتربية ملايين المواطنين ديمقراطيا، وتدريبهم عمليا لاكتساب الخبرة اللازمة للممارسة الديمقراطية فى المجتمع الأكبر بما تتيحه لعضويتها من مجالات واسعة للممارسة والتربية الديمقراطية من خلال :
- المشاركة التطوعية فى العمل العام.
- ممارسة نشاط جماعى فى إطار حقوق وواجبات محددة للعضوية
- التعبير عن الرأى والاستماع إلى الرأى الأخر والمشاركة فى اتخاذ القرار.
- المشاركة فى الانتخابات لاختيار قيادات المؤسسة أو الجمعية وقبول نتائج الانتخابات سواء كانت موافقة لرأى العضو من عدمه.
- المشاركة فى تحديد أهداف النشاط وأولوياته والرقابة على الأداء وتقييمه.

واقع المجتمع المدني في العراق
مازلنا نكرر مقولة" ان منظمات المجتمع المدني في العراق تفتقد للتجربة المدنية والثقافة الديمقراطية " على الرغم من مرور خمس سنوات على التغيير،ومازال الاضطراب والفوضى يهيمنان على حياة منظمات المجتمع المدني، وياتي هذا من خلال بعض الظواهر التي تابعها الناشطون في هذا المجال ويمكن الاشارة الى بعض مظاهر الخلل في عمل منظمات المجتمع المدني في العراق :
ــ اصبحت الكثير من منظمات المجتمع المدني تابعة للاحزاب السياسية التي ساعدت على بناء هذه المنظمات، ففقدت هذه المنظمات جانباً كبيراً من مصداقيتها في الاوساط الاجتماعية وبالتالي فقدت تأثيرها.فسخرت بعض المنظمات لاغراض سياسية حزبية ضيقة فاصبحت ادوات طيعة بيد الاحزاب.
ـ شخصنة المنظمات وتحولها من مجالها المدني الى مجال عائلي من خلال احتكارها من قبل قلة من الاقارب او الابناء او الاخوة ، فاصبحت معبرة عن مصالح ضيقة ومصدر من مصادر العيش .واستطاعت هذه القلة الحصول على منح من خلال علاقاتها فتحولت المنظمة الى غنيمة للعائلة او الفرد وفقدت صورتها وصفتهاالمؤسسية.
  تفشي الفساد في بعض المنظمات من خلال استحواذ بعض المنظمات على التمويل والمنح وتسخيرها لمصالح شخصية نفعية ربحية ما افقد المنظمة صفتها الطوعية اللاربحية .
ـ كثيرا مايطرح موضوع استقلالية المنظمات، الا ان بعض الناشطين يشكون من تدخلات مكتب دعم المنظمات غير الحكومية التابع لمجلس الوزراء، مع جهله بطبيعة عمل منظمات المجتمع المدني.
ـ تجاهل كبير من قبل الدولة لاهمية منظمات المجتمع المدني وايجاد بدائل عنها كوزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني ووزارة حقوق الانسان ووزارة الدولة لشؤون المرأة، وهذه الوزارات لم تقدم اي دعم لمنظمات المجتمع المدني.
ـ حرمان منظمات المجتمع المدني من دعم الدولة، وان كان هناك دعم فقد قدم للمنظمات القريبة من الاحزاب الحاكمة او قدم على اساس طائفي.
ـ سعي بعض الاحزاب للهيمنة على بعض المنظمات المهنية كالنقابات والاتحادات من خلال التلويح بالدعم او فرض بعض الاشخاص على هذه المنظمات.
ـ عدم وجود اطار قانوني ينظم العلاقة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني، واهمال السلطة التشريعية لهذا الجانب على الرغم مـن مرور خمس سنوات علـى التغيير ومـازالت منظمات المجتمـع المدنـي تفتـقد للقانـون الـذي ينظـم علاقتها بالدولة وطبيعة عملها ومصادر تمويلها او مراقبتها.