This site uses cookies for analytics and personalized content. By continuing to browse this site, you agree to this use.
We have updated our Privacy Notice, click here for more information Acknowledged

مـهـجـرون مـن نـوع آخـر
28/07/2008

 

هربوا من الجفاف والمجاعة فاصبحت الخيام مأواهم
بغداد - كاظم حسوني- الصباح 
قرب الشارع الفاصل بين منطقة الشعب وحي اور تثيرك اكثر المشاهد ايلاماً، عندما يقع بصرك على مجموعة خيام صغيرة ممزقة خيطت من اقمشة بالية متنافرة الالوان، تعصف بها الاتربة تحت لهيب الشمس، نصبت بين انقاض ونفايات البيوت المجاورة

الخيام الممزقة لنازحين من ارياف المحافظات وأطراف المدن جاؤوا في الاعوام الاخيرة الى بغداد بعد ان تقلبت بهم الاقدار، لتتركهم في نهاية المطاف بهذا الوضع المزري الذي يفتقد الى ادنى ضرورات العيش، عند الاقتراب ترى خياما خالية الا من بسط رثة تقتعدها نسوة بسحنات متربة تنطق بالألم، عيونهن تروي حكايات الأسى والترمل، فأغلبهن فقدن ازواجهن بظروف مختلفة، وحولهن أطفال لا تغطي اجسادهم سوى اسمال بالية، هذه العائلات تضطر للخروج بكل افرادها بما فيهم الاطفال في الصباحات الباكرة لجمع العلب المعدنية الفارغة (العتيك) من اماكن القمامة ونفايات المحال والاسواق لتأمين الكفاف والبحث عما يسد الرمق.
- (العتيك) صيفاً.. البسط (شتاء)
بعد سقوط النظام نزحنا من قريتنا في مدينة الحي حيث جفت مزروعاتنا لأننا عجزنا عن سقيها بسبب ارتفاع اسعار الوقود الذي يستعمل لمضخات السقي، فماتت ارضنا والقليل مما لدينا من ماشية، وصرنا نبحث عن لقمة العيش من دون جدوى، زوجي ظل ساكنا ولم يفعل شيئا بعد بيعه لما تبقى من الماشية بأقل الاثمان، وبدلاً من ان يجد عملاً لإنقاذ اسرته، هرب وتركنا من دون عودة الى زوجته الاخرى في محافظة الكوت ليعمل حارسا هناك، بهذه الكلمات بدأت ام حسين المرأة الخمسينية احدى سكنة هذه الخيام بسرد حكايتها، مضيفة: زوجي غدر بأسرته، القرية كلها اصابها الجفاف والمجاعة، فكان من الصعب تدبير وجبة طعام واحدة في اليوم لعائلتي المكونة من خمسة افراد، ما اضطرنا الى ترك ديارنا نحن وثلاث عوائل من القرية والتوجه الى بغداد، كنا نحلم بمعيشة افضل وبما كانت تعد به الحكومة الجديدة للفقراء.
عند وصولنا وضعنا امتعتنا الصغيرة الى جانب الخيام مع من جاؤوا قبلنا، ظللنا في العراء ليومين نعمل لتدبير خيمة من قطع الثياب الزائد والقماش المتروك الذي تبرع به الجيران..
وتابعت: عرفنا بعد وقت قصير انه لا يوجد عمل سوى بالمزابل، الارامل تخرج عند الفجر بصحبة الصبيان الى الشوارع وأكوام النفايات لجمع العلب الفارغة التي توضع بأكياس الطحين في المخيمات بانتظار متعهد (معمل الفافون) الذي يأتي في نهاية كل اسبوع لشراء (العتيك) بالوزن، ولكن لا نحصل الا على مبالغ قليلة لا تسد حتى حاجتنا من الطعام مقابل التعب المتواصل وسط الغبار والشمس في الاماكن القذرة، مضيفة: ان مجمع الخيام الذي تراه لا يوجد فيها انبوب ماء واحد ماء او كهرباء، الماء نجلبه من البيوت القريبة.وفيما يخص عملهم في الشتاء حيث يشح وربما ينعدم وجود علب العصير الفارغة، اوضحت ام حسين انهم ينتقلون في الشتاء الى العمل في نسج البسط القماشية، حيث يتم جلب (بالات) مزق القماش من منطقة (عويريج) وتوزع بكميات متساوية بين النساء العاملات في الخيام ويتم نسج البسط بواسطة آلة خشب يدوية، لكنها اردفت: ان هذه التجارة غدت كاسدة حيث قل الاقبال على شراء البسط في الفترات الاخيرة وما عادت تغري الناس مثلما كانت عليه في السابق.
- أرامل وحكايات
لنساء هذه المخيمات الغارقات في الفقر قصص متشابهة فأغلبهن مطلقات او ارامل، اوكلت لكل واحدة منهن مهمة العمل نيابة عن الزوج المفقود، احلامهن لا تتعدى الحصول على لقمة العيش، هذا ما قالته طردة ام علي (ارملة) ام لطفلتين، مضيفة: جاءت الينا (جماعة الفضائية) قبل اشهر قالوا سنعرض حالتكم على الحكومة، ثم زارنا الاميركان ووعدونا بخيم جديدة، لكن لم يأت احد منهم، ولم يتغير وضعنا حتى الآن، الصيف اصعب من الشتاء، والشتاء اصعب من الصيف، لا نجد من يساعدنا، الحكومة هل ترضى نحن النساء ان يضيق بنا العيش الى الحد الذي جعلنا ننبش في المزابل، وفي الشتاء ننسج بسطاً لا يشتريها منا احد، ثم انهمرت دموعها قائلة: انا لا اعتب على الغرباء وقد تركني ابنائي بعد زواجهم واستقلالهم في بيوت خاصة بهم، خطفتهم نساؤهم مني، وصرت غريبة عليهم لأنني فقيرة اسكن خيمة ممزقة بلا معيل، وفيما يخص اعانات دائرة الرعاية الاجتماعية، قالت: انها لم تراجع هـــذه الدائرة ولا تعلم عنها شيئا الى جانب عدم قناعتها بتسلم اعانة شهرية لمجرد المراجعة وعرض حالها، مضيفة: من يصدقني؟، ومن يعــرفني؟، فضلا عن ما يقال ان المســــألة تحتاج الى واسطات او رشاوى لا استطيع تدبير اي منهما.
- مجرد وعود
لفاطمة ام فاضل حكايتها ايضا فهي ام لثلاثة اطفال هجرها زوجها قبل اكثر من عام، تعيش في خيمة ليس فيها شيء غير بسط متربة مفروشة على الارض، وفي احدى زوايا الخيمة اكياس مملوءة بالعلب المعدنية، خلال حديثنا معها، جاءت طفلتها ذات الثمانية اعوام حاملة كيس نايلون فيه علب فارغة، راحت تنظر الينا وتبتسم وهي تلوذ بجانب امها، ام فاضل اوضحت انهم اضطروا للتنقل الى عدة اماكن قبل الاستقرار في هذا المكان لأن الساحات التي حلوا فيها اهل الخيام تحـــولت الى متنزهات، مضيفة بتهكم: لولا الانقاض التي تملأ هذه الســــاحة لأرغمتنا امانة العاصمة على الرحيل ايضا، ولا نجد لنا مأوى في الوطن، وكأننا لسنا مواطنين، اين اولئك الذين انتخبناهم قبل اكثر من عامين؟ اين ذهبت الوعود التي قطعوها على انفسهم؟ فنحن كما ترى ليس لدينا ما نعيش منه، اطفالنا بلا مدارس، لا يوجد في المجمع طفل واحد يقرأ ويكتب، فتحوا عيونهم في البحث عن (العتيك) في المزابل، وفي وسط العاصمة ولسنا في قرى نائية بعيدة عن انظار المســؤولين.
- هوية المهجرين
المفارقة ان هناك الى جوار هذه المخيمات البائسة مجمعاً سكنياً يضم (160) وحدة سكنية وهي كابينات من الالمنيوم تشتمل كل واحدة على غرفتين وخدمات وقد جهزت بالماء والكهرباء اعدت لإيواء العوائل المهجرة، وستكون جاهزة لتسلمها بعد تبليط الشوارع، عائلات (العتيك) لم يراودها الامل بالانتقال للسكن فيها على الرغم من قرب المجمع من خيامهم، لأنهم لا يحملون هوية المهجرين هذا ما قاله لهم المسؤولون بعد المراجعات المتوالية الى المجمع.
قال البعض من سكان الخيام: ألسنا مهجرين ايضا، وربما اوضاعنا اصعب لأننا لم نتلق اعانات من اية جهة، وأوضاعنا القاسية تحت انظار الجميع، الا يحق لنا منح هوية المهجرين اسوة بغيرنا للانتقال الى سكن لائق.
- الأطفال العمال
صبية صغار سرقت طفولتهم ومرحهم، صبيّة بوجوه متربة، متسخة، غابت عن شفاههم البسمة، بسحنات شاحبة اغتصبتها قسوة الواقع المر، حيث لا تعليم ولا مستقبل، قذفوا عنوة في معترك الصراع لأجل الحصول على لقمة العيش، اياد عاملة رخيصة تجمع علب المشروبات الغازية الفارغة من اكوام المزابل، وبهذا الصدد قال احد سكان البيوت المجاورة: هاهم الاطفال، مشيرا الى الاطفـال وهم يحملون الاكياس الكبيرة فوق ظهورهم النحيلة محملة بـ(العتيك)، موضحا انهم ايتام اوكلت اليهم مهمة القيام بأعباء الآباء الغائبين، اي الخوض في الاعمال الشاقة على الرغم من صغر سنهم، فهم يخرجون في الصباح بدلا من الذهاب الى المدارس بثيابهم الجميلة يتجهون حفاة بأثواب قذرة صوب تلال النفايات والقمــــامة، وسط العفن والاوبئة والروائح النتنة، لجلب (العتيك) فضلا عما ينطوي عليه عملهم من مخاطر العبوات الناسفة، والمتفجرات.. ترى من ينقذ الطفولة؟ من ينتشلهم من جحيم العيش المرير ويعيدهم الى مقاعد الدراسة ويرعى مستقبلهم؟ أليست الحكومة معنية بذلك قبل غيرها؟.