درجت الحكومات الغنية في شمال الكرة الأرضية على معاملة البلدان الفقيرة في جنوبها معاملة تخالف الحكمة القديمة التي تدعو إلى تعليم الفقير صيد السمك بدلاً من إعطائه سمكة كلما تضور جوعاً، ففي احترافه مهنة إنقاذ دائم له من الفقر، فيما السمكة لا تكفيه إلا لوجبة واحدة. ويبدو ان الباحثين الاقتصاديين، البريطاني بول كوليير والأميركي ويليام إيسترلي، من محبذي هذه الحكمة.
يقول كوليير في كتابه «البليون الأدنى: لماذا تفشل البلدان الأفقر وماذا يمكن فعله في هذا المجال» (صدر عن مطبعة جامعة أكسفورد البريطانية) ان المساعدات لن تكفي وحدها لإنقاذ الفقراء. ويصل إلى حد القول ان البليون شخص الأفقر في العالم، إذا أرادوا ان يُحيوا اقتصادات بلدانهم من ركودها الذي تغرق فيه منذ عقود، لوجب على الحكومات الغربية أحياناً ان ترسل قوات تحمي الأنظمة الديموقراطية في البلدان الفقيرة وتساعدها على تطبيق برامج التنمية الاقتصادية.
ويضيف كوليير ان العولمة، التي أخرجت الملايين في الصين والهند من الفقر خلال التسعينات، زادت البليون شخص الأفقر فقراً بنسبة خمسة في المئة. يقول: «تتعايش البلدان الواقعة في أسفل الدرك الاقتصادي في العالم مع القرن الحادي والعشرين، لكنها تحيا في الواقع في القرن الرابع عشر، إذ تسودها الحروب الأهلية والأوبئة والأمية».
ويُعتبر العمل ثمرة جهد استغرق سنوات في دراسة أحوال البلدان الفقيرة وأسباب نجاحها أو فشلها في التخلص من الفقر، وهو يزخر بنتائج الدراسات الكثيرة التي أجراها الكاتب في هذا المجال، على رغم توجهه أساساً إلى القارئ العادي، بهدف التأسيس لرأي عام يدعو إلى مساعدة البلدان الأفقر في تنمية اقتصاداتها بدلاً من إغراقها بالمساعدات، لا إلى الخبراء الذين تُعد الأرقام همهم الأول.
ويحسب كوليير، وديدنه علم الاقتصاد، لا الشعور بالذنب الذي يدفع كثيراً من المؤسسات الإنسانية الغربية باتجاه المستعمرات السابقة لمد يد العون إليها، ان متوسط كلفة النمو الاقتصادي الضائع على كل «دولة فاشلة» وجاراتها بلغ مئة بليون دولار منذ انحسار الاستعمار عن بلدان العالم الثالث، ولذلك لا يبدو إنفاق بضعة ملايين دولار لتمويل تأسيس إدارات ماهرة تدعم الحكومات، وتنفيذ مشاريع في مجالات البنية التحتية، أو حتى إرسال قوات لإسقاط انقلاب يستهدف حكومة ديموقراطية، استثماراً ذا منفعة بعيدة الأجل.
ويركز إيسترلي في كتابه «عبء الرجل الأبيض: لماذا تسببت جهود الغرب لمساعدة الآخرين بضرر كبير وجاءت بمنفعة قليلة» (صدر عن دار بنغوين البريطانية - الأميركية) على حالات محددة من المساعدات الأجنبية، نجح بعضها ويمكن اعتباره مثالاً يُحتذى، وفشل معظمها الذي تتجنب المؤسسات الإنسانية مناقشته، أقله بصوت عالٍ.
والباحث، الذي ذاع صيته قبل سنوات بفضل كتابه الناقد للتنمية في العالم الثالث «الجهد التنموي الضائع»، يقول بأمور منطقية تتعلق بالمساعدات الخارجية، يربطها بأمثلته التي لا يخلو بعضها من طرافة. وهو لا يصرّح مباشرة ان المساعدات الخارجية فاشلة، وإن للمح بذلك، فكثير من القرويين الفقراء في أفريقيا يعتمدون على المساعدات ليبقوا أحياء، وقد يقع عليهم كلامه وقع الصاعقة.
يذكّر إيسترلي بمواقف اليمين الأوروبي والغربي الذي يرى في المساعدات هدراً للمال لا طائل منه، لكنه يتميز عنه بأنه لا يدعو إلى وقف المساعدات بل إلى إعادة التفكير فيها جذرياً. هو ينفي صحة نظرية «فخ الفقر» التي تقول ان ثمة بلدانها لا يمكنها الاعتماد على ذاتها يوماً بل يجب ان تتلقى مساعدات إلى ما لا نهاية. ويرى ان البلدان التي نجحت في استئصال الفقر، مثل الصين وسنغافورة وماليزيا وغيرها في آسيا، هي تلك التي لم تتلقّ إلا قليلاً من المساعدات المحتسبة وفقاً لحصة الفرد.
ويدعو إيسترلي، الأستاذ في جامعة نيويورك والخبير الاقتصادي السابق في البنك الدولي، إلى تشجيع الأفراد في البلدان الأفقر على تجميع ما لديهم من أموال في مشاريع مشــــتركة تدر عليهم الربح بدلاً من إنفاق ما يحصلون عليه من مال قليل على أماكن اللهو التي تكثر في الأرياف الفقيرة، خصوصاً في أفريقيا.
ويكرس جزءاً أساسياً من عـــمله هذا، الذي يتميز بتفاصيله الغنية التي قلما ضم مثلها عمل عن المساعدات الخارجية، لنقد الكتاب الشهير «نهاية الفقر» للباحث الأميركي جيفري ساكس (2005) الذي يرى ان في المساعدات الوافرة سبباً لازدهار المشاريع المنتجة في البلدان الفقيرة.