This site uses cookies for analytics and personalized content. By continuing to browse this site, you agree to this use.
We have updated our Privacy Notice, click here for more information Acknowledged

الثورة مدينة بناها قاسم ودمرها صدام
28/08/2008

 

 

 

توفيق التميمي- الصباح
تداعيات بالقرب من حلم مدينة الثورة الجديدة التي ستظهر للوجود خلال 10 اعوام مقبلة حسب توقعات أمانة العاصمة.الى متى سيظل أطفال مدينة الثورة مطلع ستينيات القرن الماضي يلهجون بذكر الزعيم الذي انقذ اباءهم من وحل ومستنقعات الصرائف المتاخمة لاطراف العاصمة بغداد في (العاصمة) و(الشاكرية)؟
والى متى سيحتفظ هؤلاء الصغار بملامح الزعيم المرسومة على مناديل محفوظة بسرية في خزانات العوائل الفقيرة وتحفهم المرمرية؟.
الى متى ستظل الذاكرة الشعبية تختزن قصصاً ومرويات من سيرة الزعيم تحكي عن زهد وعفة شاذين في تاريخ الحكام والملوك الذين حكموا البلاد؟ وخلاصتها المكرورة عن زعيم عراقي قتل وفي جيبه دراهم معدودة وهو يشرف على خزائن الرشيد وثروة النفط العجيبة؟
الى متى ستتحفظ واجهات المدينة باسم الزعيم الذي بناها رغم ان المدينة تغيرت اسماؤها لاربع مرات متتالية كيما  يغيب أسمها الاول عن الذاكرة والتاريخ.
فالمدينة فكرة وحجر وحلم كانت من منجزات ثورة تموز الاولى وامتيازا خاصاللزعيم قاسم دون سواه من الحكام فتجمع الفقراء الحجري كان هو البديل عن تلك المستنقعات العائمة وسط بحيرة من الاوبئة والمياه الآسنة في (العاصمة) و(الشاكرية).
المدينة ما بعد الزعيم
في لحظة يستعرضها تلفزيون الانقلابيين تعرض جثة الزعيم المقتول فيكذب الفقراء وعشاقه قصة موته ويشككون بالصورة المعروضة ويكون ذلك ايذانا بحلول تاريخ جديد للمدينة ملامحه الرعب والقتل وهيمنة العسس والجواسيس وغياب لحظات الفرح النادرة التي بدأت مع الطابوقة الاولى للمدينة.
كان ذلك مقدمة للخراب الذي سيحل على المدينة، وسيعاقب الانقلابيون اهلها الفقراء بعقوبات جماعية شديدة جزاء حبهم للزعيم وذكراه العطرة في قلوبهم وارواحهم وذاكرتهم، ابتدع فقراء المدينة قصة ارتحاله لقمرهم الفضي بعيدا عن عصابات القتل التي اغتصبت حكمه وتاريخ العراق وجسده النابض بالخير والثروات .
بعد سنوات من غياب الزعيم الاسطوري سواء في مخبئه القمري او بقايا جثته الغاطسة في نهر ديالى ستبقى صورة الزعيم متوهجة في ذاكرة ابناء المدينة ورجالاتها وسيبقى شيوخها يرددون مآثره ومواقفه في الزهد والعفة لاجيالهم بمرويات اقرب للاسطورة منها للواقع التاريخي.
ويحل عهد جديد على المدينة حيث يحتل الخوف والرعب كل مسامات الامان التي وزعها الزعيم في جسد المدينة وعلى تخومها تتهدم البيوت الآمنة التي شيدتها وزارة الاعمار لجمهورية الزعيم، يتحول البشر الى ادوات للوشاية والتزلف للحاكمين ويغدو مواطنها البسيط مشروعاً دائماً لموت ياتي بطرق متعددة من حروب وابادة وشنق علني.
مدارس الزعيم في المدينة تتحول الى مقرات للمنظمات الحزبية والامنية لمطاردة المعارضين وتعقب المشاغبين واحالتهم من هذه المدارس الى دهاليز وممرات لاعودة منها ابدا
لن تستعيد المدينة فصول فرحها ومواسم اعيادها التموزية الاولى لان المدينة فتحت بواباتها الجهنمية لحروب ضارية اخذت تلتهم شبابها ورجالاتها افواجا افواجا .
واصبح السواد سمة للامهات واليافعات والنواح اغنية تتسرب من نوافذ البيوت لتصل تخوم مقابر مجهولة واخرى تحتمي بظلال الامام علي في قبره الملائكي وكذلك الى مساحات الغياب المترامية اسرا و اعتقالا وتشردا .
كل ذلك كان يجري عقوبة متعمدة وضريبة لابد منها للمحبة التي استأثر بها الزعيم من قبل هؤلاء الفقراء

سكان المدينة الاوائل .
ولكن في كل تلك الفصول السود والصفحات المظلمة لم تتوقف المدينة يوما واحدا عن انجاب قوافل المبدعين من الشعراء والرياضيين والمغنين والعشاق وكذلك قوافل الشهداء الذين ضاقت بهم مقابر النجف الاشرف ومقابر ملحقة بها لايعلمها الا الله والراسخون في علوم القتل بالاحماض السرية والمدافن المجهولة
.
سوف لن تستعيد المدينة بهاءها ولن ترمم خراباتها في ازمان لاحقة وكأنها هي لعنة تزوير الاسماءوالعقوق بحق الزعيم الذي ارسى حجرها الاول
.
مازالت المدينة تنتظر من يكمل خطوات الزعيم بعد خمسة عقود من غيابه ويعيد لها نضارتها المسلوبة ويعيد ابناءها الذين تسللوا منها هربا من البطش والموت وهواجس السجن، المدينة تنتظر وهي لاتحتمل خيبة اخرى ولو بحجم حلم المدينة الجديدة التي ستحل محل المدينة الاولى وتلغي مع حجارتها القديمة كل صفحات الالم وفصول المرارة التي تعاقبت على هذه المدينة منذ غياب الزعيم وحتى هذه اللحظة
.
مدينة عصية على التوثيق

لا يمكن للمدينة ان يضمها كتاب ويؤرشفها شاهد واحد فالمدينة مرت بتحولات كبيرة ومنعطفات هائلة وتعاقبت عليها اجيال عديدة ولذا يمكن لفريق عمل مخلص في نواياه وممتلك لادوات البحث والتقصي ان ينجز مهمة توثيق المدينة وكتابة تاريخها المبعثر في صحائف مصادرة ورسائل محروقة وشهادات غابت في صدور الراحلين او الشهداء
.
ولهذا لايمكن لاي شخص مهما اوتي من موهبة وحافظة تاريخية ان يدون تاريخ المدينة دون ان تسقط منه مئات الوقائع المصيرية والاسماء البارزة والاحداث الجسام التي لاتلخص تاريخ المدينة وعذابها حسب بل تاريخ فقراء العراق كلهم وفي اية بقعة منه
.
لم تنجز هذه المهمة على اكمل وجه حتى الان لدوام اضطراب المدينة المستمر
.
الثورة ليست ككل المدن

لايمكن توصيفها بوصف المدينة ولا بالقرية ايضا هي بين هذا وذاك تمتلك من الريف بقايا ذاكرته وسجاياه ومن المدينة حجرها وطابوقها وامتزاجها بالغرباء المدنيين حقا
.
وهي لا تنتمي للمدن التي نالتها حظوظ  التنمية والبناء والاعمار لهذا حافظت على نسقها الاول ولم تشهد خارطتها اي تغييرات عمرانية او جماليةطيلة العهود الماضية
.
هذا الموقع الهلامي لها بين المدينة والريف هو مشكلتها ولحقت بابنائها ومن جرائه اكثر التوصيفات والنعوت بذاءة وتشنيعا فحمل ابناؤها القابا ظلت تطاردهم في حلم الوظيفة والزواج والرحيل للمدن السعيدة البعيدة
.
 
قدمت المدينة للدولة والمجتمع ادوات البناء والرأسمال البشري المطلوب من العمال والكسبة وموظفين صغار والضباط بالاضافة لقوافل المبدعين في كل المجالات
.
 
غياب المراجع التأريخية عنها

لم يفكر احد من ابنائها المحترفين للكتابة والمحترقين بنيرانها من تدوين تاريخها الملون بصبغة المصائب والاحزان ونكهة البؤس وطابع العوز.
تبعثرت حكايات المدينة في مرويات القصاصين والشعراء ومواويل المغنين، الثورة المدينة عناوين مقترحة لانسكلوبيديا معرفية وموسوعة تاريخية تضم ابرز اعلامها في الصحافة والادب والمع نجومها من الرياضيين والشعراء الشعبيين واشقيائها المتمردين وطقوس عزاءاتها وكراديس امواتها وطقوس افراحها البوهيمية والاهم من ذلك كله اسماء شهدائها وضحاياها من السياسيين والعسكريين والشباب وأبطال التظاهرات المحذورة فالمدينة شهدت اول مظاهرة سلمية ضد حكومة البعث في صيف حزيراني من العام 1979

وتصدى لها ذئاب البعث بمنتهى الوحشية والبربرية لتفتح المدينة لها فصلاً جديدا من العقوبات، سوف لن ينتهي بنهاية ذئاب البعث الفاشي. فكان اول الشهداء منها كما كان منها اول المغنين والشعراء .
الثورة من التأسيس مشروع لاسماء وعناوين مقترحة لمشروع تاريخي ووثائقي  لم ينجز بعد، مازال من  شهوده الاحياء يرابضون على مدارات الالم والفجيعةويقفون على ارض من العوز والبؤس وحتى من فر من ابنائها لا يمكن ان ينسى او يشطب من ذاكرته اسماء صحبته وطعم الفقر في ازقتها ولون الرعب المرسوم على الجباه والعيون التي تتخفى من الذئاب الوحشية وجيوش المخبرين السريين
.
 
يمكن لهذه الموسوعة لو ظهرت ان تكتب تاريخا امينا تحفظه ذاكرة الاجيال ويختصر قصة مدينة بناها الزعيم ودمرها قتلته ويحلم الساسة الجدد ببنائها من جديد
  .
ومازالت المدينة تنتظر الرحمة المؤجلة والحلم الذي لم يتحقق ابدا بمدينة جديد وطراز معماري يطمس تحت انقاضه كل احزان المدينة ويطوي كل ايقاعات الآمها ويختم كل فصول خيباتها المتكررة.