This site uses cookies for analytics and personalized content. By continuing to browse this site, you agree to this use.
We have updated our Privacy Notice, click here for more information Acknowledged

مدينة الصدر عدد سكانها يبلغ مليونين و500 ألف شخص ثلثيهم من الأطفال غاب عنها العمران
19/09/2008

 

 

نقاش | خلود رمزي | مشهد يتكرر في كل شارع وزقاق، عشرات الاطفال يعيشون في منزل ضيق لا يكفي لاكثر من خمسة اشخاص يفتقر الى الماء والكهرباء. هكذا هي الحياة في مدينة الصدر التي يخيل لزائرها ان جيوشا من الاطفال احتلت المدينة ولم تترك مكانا لاحد. علي طفل في السادسة من العمر وهو واحد من 21 طفلا لثلاث عائلات تعيش في منزل واحد وتقيم كل عائلة في غرفة واحدة مع اطفالها لاتكاد تكفي لاحتواء اجسادهم الممددة على افرشة صغيرة اختفت الوانها بمرور الزمن من كثرة الاستعمال. وفي زاوية صغيرة من مدخل المنزل تتكدس بعض قناني الماء الفارغة التي تستخدمها عائلة علي لسد حاجتها اليومية من الماء فيما تتخذ العائلة من باحة صغيرة داخل المنزل مطبخا وضعت فيه انبوبة الغاز وطباخ صغير غطت سطحه كتل من الدهون والاوساخ.

تقول أم علي أن "الصغير كثير التمرد على الواقع الذي نعيشه ويطالبني بجلب سرير جميل له مثل ذلك السرير الذي رآه في بيت خالته سهام عندما رافقني لزيارتها قبل أيام ، وهو لا يقتنع بتبريراتنا أنا ووالده بضيق المكان ويطالبني بالذهاب إلى بيت الخالة والعيش معها لان بيتها يحتوي اسرة جميلة اقتنتها لأطفالها الثلاثة فيما لا نملك نحن سوى أفرشة بالية تهرأت من رطوبة الأرض".
وتضيف أن "الأجور الشهرية التي يتقاضاها والد علي كعامل تنظيف تكاد لا تكفي لسد احتياجاتنا اليومية من الطعام واضطر إلى إرسال أولادي الثلاثة محمد(7سنوات) وقاسم(8سنوات) ورضا(10 سنوات) الى العمل في بيع اكياس النايلون داخل سوق الحي القريب من منزلنا بعد خروجهم من المدرسة".
عائلة علي واحدة من مليوني ونصف المليون شخص يعيشون ظروفا متشابهة في مدينة الصدر الشيعية التي أنشأها الرئيس العراقي الأسبق عبدالكريم قاسم في ستينات القرن الماضي والذي كان يلقبه العراقيون بـ (الزعيم) واسماها (مدينة الثورة) واسكن فيها الفلاحين الذين نزحوا من جنوب العراق بسبب الفقر والفاقة، مثلما سكنتها بعض العائلات القادمة من اطراف بغداد.
ولم يخطر ببال احد آنذاك أن هذه المدينة الصغيرة، ستتوسع لتصبح اكبر مدن الرصافة (النصف الشمالي لبغداد) من حيث الكثافة السكانية، بل هي تطالب بأن تصبح محافظة مستقلة عن بغداد.
فالأهالي، الذين وفدوا من قرى العمارة والناصرية في الجنوب العراقي الفقير، باتوا مصدر جذب لأقاربهم الذين لحقوا بهم بعدما سمعوا عن الوضع الذي تتمتع به المدينة قياسا إلى قراهم الفقيرة.
وعلى رغم أن المدينة، التي كان النظام السابق غيّر اسمها من (مدينة الثورة) الى (مدينة صدام) لم تتطور كثيراً منذ إنشائها، من حيث الخدمات والبيئة العمرانية، لكنها شهدت اكبر موجة للنزوح من محافظات الجنوب خلال العقود الثلاثة الماضية. وشهد اسمها تغييراً متلاحقاً، غالبا ما يتأقلم مع الوضع السياسي الجديد في البلاد، وحاول الزعيم العراقي عبدالسلام عارف تسميتها "مدينة الرافدين" في منتصف الستينات من القرن الماضي لكن الاخير أطيح به قبل تغيير اسم المدينة، وبعد احتلال العراق استقر الاسم على "مدينة الصدر" تيمنا برجل الدين الشيعي محمد صادق الصدر الذي أعدم مع اثنين من أبنائه بأمر من الرئيس الراحل صدام حسين.
وتشير الإحصاءات الرسمية للمجلس البلدي في مدينة الصدر أن عدد سكان المدينة في الوقت الحالي يبلغ مليونين و500 ألف شخص ثلثيهم من الأطفال طبقا لنظام البطاقة التموينية المتبع في العراق. حيث تضاعف عدد السكان بشكل كبير خلال الأعوام الماضية بسبب ارتفاع نسبة الإنجاب بينهم مترافقا مع انتشار الأمية والفقر، ما تسبب في أزمة كبيرة في السكن، إذ ان آلاف العائلات الكبيرة، التي يصل عدد أفراد كل واحدة منها بين 15 و35 شخصاً، تعيش في منازل مساحتها (نحو 150 مترا).
وتقسم المدينة إلى 79 قطاعاً متساوياً بمساحتها ومختلفة بتصاميمها، وتبلغ مساحة الواحد منها 250 مترا مربعا. ولا تخلو من بيوت التجاوز غير المرخصة رسمياً التي ظهرت بعد سقوط النظام السابق والتي أدى تكاثرها إلى تشكيل قطاع جديد أطلق عليه السكان تسمية (القطاع صفر) والذي تم تشييد منازله من الصفيح والطين والفخار البدائي .
ويؤكد مسؤولون في هيئة خدمات محافظة بغداد أن الكثافة السكانية التي تعاني منها مدينة الصدر باتت مشكلة كبيرة وتحتاج إلى حلول سريعة وجدية، الأمر الذي دفع الأمانة العامة لهيئة الخدمات إلى تخصيص مساحة 3000 دونم من الأراضي في منطقة الدهنة، قرب منطقة الغزالية، لأهالي الصدر لتقليص الكثافة السكانية فيها بشكل نسبي، فضلاً عن إنشاء ما بين 10 و20 ألف وحدة سكنية، منها 15 الفاً في جانب الرصافة و5 آلاف في جانب الكرخ.
وتضم المدينة التي اكتسبت شهرتها من الأحداث الأمنية المتلاحقة التي مرت بها خلال السنوات الخمس الماضية أسواقا شهيرة هي سوق العورة وسوق عريبة وسوق الحي وسوق مريدي وهو اكبر سوق لتزوير الوثائق الرسمية في العراق، بدءا من شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وليس انتهاءا بشهادات الميلاد والوفاة، ويديره مجموعة من خبراء التزوير الذين توارثوا المهنة من ابائهم. ويتناقل العراقيون طرائف كثيرة عن هذا السوق الذي يقولون انه خرج طلابا أكثر مما خرجت الجامعات العراقية.
وينتشر الأطفال بشكل مجموعات في تلك الأسواق لبيع أكياس النايلون والبحث عن علب المشروبات الفارغة بين القمامة ويقول أحدهم وهو جعفر صادق(8 سنوات): "تركت المدرسة في السنة الأولى بعد إصابة والدي بمرض السرطان وعملت مع ابن خالي حسن في بيع الأكياس داخل السوق" ويضيف جعفر: "أعود إلى البيت بعد صلاة المغرب حاملا معي مبلغ حوالي 10 آلاف دينار (8 دولارات) يوميا أعطيها لوالدتي لتتدبر امر معيشتنا انا واخوتي الستة"، ويعترف جعفر بصعوبة العمل داخل السوق بسبب كثرة الأطفال العاملين وحدوث شجارات دائمة بينهم ويقول أن "الأطفال الذين لا يملكون أقارب في داخل السوق يتعرضون للضرب والاعتداء من قبل أقرانهم".
ولم تكن مدينة الصدر معزولة عن الأوضاع الأمنية في البلاد، فهي المعقل الرئيس لجيش المهدي (الجناح العسكري للتيار الصدري) وينقسم شباب المدينة في ولائهم بين جيش المهدي و"المجاميع الخاصة" التي اعلنت تمردها على الزعيم الشيعي بعد اعلانه تجميد النشاطات العسكرية لجيش المهدي واخذت تعمل بشكل مستقل .ولا تخلو المدينة من الشباب العلمانيين الذين يحتفضون بارائهم لانفسهم خوفا من اثارة المشاكل.
في إحدى المنازل التي دخلناها، تعيش عائلتان، الأولى عائلة العم أمجد الذي توفي في مواجهات مسلحة خلال الأزمة الأمنية الأخيرة في مدينة الصدر وترك وراءه زوجته وستة أطفال أكبرهم في عمر (14 سنة) والثانية عائلة ياسين الذي يتخذ من باب الدار منفذا للتسامر مع الجيران والمارة ولا يغادر المدينة لأي جهة أخرى، كونه من المطلوبين للقوات الأميركية هناك. يجلس الرجل الثلاثيني المصاب بعوق في ساقه اليسرى عند مدخل الدار يراقب المارة ويسألهم عن الاوضاع خارج المدينة.
يقول ياسين أنه كان "قياديا مخلصا في جيش المهدي"، ويعترف الرجل، الذي وافق على تصويره أمام باب منزله وحوله مجموعة من أطفاله بشرط عدم نشر الصورة، يعترف بالمشاركة في "عشرات عمليات القتل الجماعي والفردي"، وأنه كان "مشرفا على قتل احد الأساتذة في جامعة بغداد وخمسة من ضباط الجيش السنة " مضيفا أنه جماعته "اشرفت على اختطاف اثنين من اقارب احد المسؤولين الذي حرض على استهداف جيش المهدي" وينهي كلامه بالقول: "الآن اشعر انني بدأت ادفع ثمن اخطائي".
الأسف الذي يبديه ياسين، ليس لأجل تورطه في إنهاء حياة أناس مسالمين، فهو يقول لمراسل نقاش: "لست نادما على ما فعلت لكنني نادم لان افعالي جعلتني حبيس المنزل بعدما وضعت القوات الأميركية اسمي بين لائحة المطلوبين المتهمين بقيادة فرق الموت".
و كانت مدينة الصدر قد شهدت مواجهات عسكرية عديدة بين عناصر جيش المهدي والقوات الاميركية في العراق اثر ظهور حالات تمرد ضد الوجود الاميركي في البلاد. كما خضعت المدينة إلى حصار عسكري فرضته عليها الحكومة العراقية والقوات الأميركية في آذار/مارس الماضي لاكثر من شهر بهدف نزع سلاح جيش المهدي، وعاش السكان حينها أوضاعا إنسانية صعبة، دفعت قياديين في تيار الصدر الى المطالبة بفصل المدينة عن بغداد وتشكيل محافظة جديدة تحمل اسم المدينة ذاتها.
لكن الازمة انتهت بتفاوض العشائر الشيعية التي تسكن المدينة مع الحكومة وتوقيعها على ميثاق شرف يقضي بتسليم المطلوبين الذين تثبت إدانتهم بجرائم. وحاولت الحكومة العراقية والجيش الأميركي بعد هذه الازمة محاصرة المليشيات فأقدمت على بناء جداران كونكريتية عازلة شطرت المدينة إلى ثلاثة أجزاء، وأحاطتها بسور خرساني فتحت القوات الاميركية فيه منفذان الأول للدخول والثاني للخروج. أما الجيش الأميركي الذي اتخذ من أحد مراكز الشرطة عند مدخل المدينة مقرا له فلا يتجاوز السور العازل ويحافظ على تواجده خارجه. الأمريكيون عندما طوقوا المدينة بالسور العازل حرصوا على عزل الجامع الكبير للصدريين، وأبقوه خارج السور، ما دفع انصار الزعيم الشاب مقتدى الصدر إلى إقامة صلوات الجمعة في داخل مكتب الصدر، ليتدافعوا بعد كل صلاة خارجين في مظاهرات تطالب بانسحاب القوات الأمريكية من العراق.