مدينة بغداد انموذجاً
تاليف ـ اسماء جميل
عرض ـ نجلاء الخالدي
تناول العديد من الباحثين والكتاب ظاهرة العنف الاجتماعي من خلال دراسات وبحوث ركزت في اغلبها على "شخصية الفردالعراقي" والاسباب التي ادت الى تنامي هذه الظاهرة بين شرائح عديدة منه, وبالتالي البحث عن حلول مناسبة تسهم في الحد من الانعكاسات الخطيرة لهذه الظاهرة التي اخذت تتنامى بشكل كبيرلاسيما خلال السنوات الخمس الماضية وتاتي دراسة الدكتورة اسماء جميل "العنف الاجتماعي "استكمالا لكتب ودراسات سابقة عن الظاهرة والاسباب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي ادت الى اتساع دائرة العنف في مجتمعنا، الا ان الدكتورة جميل تميزت في تفسير ظاهرة "العنف" من خلال بحثها في العوامل التي يمكن ان تسهم بدرجة او باخرى في دفع الفرد الى ارتكاب العنف، او اللجوء اليه بوصفه الاستجابة الاكثر قابلية للظهور، في اثناء التفاعل اليومي، وفي مجالات الحياة الاجتماعية كافة، وقد حددت المؤلفة المجموعات الاحصائية المراد دراستها من مناطق اطراف بغداد ومن مجمعات سكنية شملت المستويات الاجتماعية والاقتصادية الدنيا والمتوسطة والراقية" في احياءالكرادة والجادرية فضلا عن الفضل والكفاح " باعتبارهمااكثرالمناطق عنفا في مدينة بغداد وقد تناول الكتاب الذي صدر عن دار الشؤون الثقافية في خمسة فصول، العنف في تراث علم الاجتماع اذ بينت الباحثة كيف ان العنف حظي باهتمام الكثير من الباحثين في الحقل الاجتماعي، ابتداء من ابن خلدون ـ مؤسس علم الاجتماع ـ وانتهاء باللحظة العلمية الراهنة. ومنذ ذلك الوقت، يساور الشك الفلاسفة الاجتماعيين، بشأن طبيعة السلوك العنفي وهل انه متأصل في الطبيعة البشرية، او انه دافع مكتسب من البيئة المحيطة بالانسان؟
مشكلة العنف في العراق
وهنا تناقش جميل مفهوم العنف الذي ينطوي على مشكلة تتعدد ابعادها، ويتداخل فيها العامل النفسي والبيولوجي والاجتماعي، كما يضم سلسلة من الافعال التي تتراوح مابين الضرر المادي والجسدي والاهانات النفسية وغيرها من اشكال الايذاء التي تنبسط على سلم طويل من الدرجات، يبدأ بالتهديد والمساومة ماراً بالتجريح والتجويع والكسر والاسكات والتكذيب والسب ثم القتل.
وتربط الباحثة في هذا الباب من البحث بين العنف في الماضي وصلته بالحاضر الا انها توكد ان العنف في الماضي ليس بمستوى الشدة التي نشهدها اليوم اذ ان العنف اليوم يأتي نتيجة لسياقات وظروف اجتماعية معينة سمحت بذلك، ولعل في الظرف الاقتصادي الضاغط وما يتعرض له المجتمع العراقي من ازمات وما يتبعها من تغيرات عميقة تركت آثارها في بنية المجتمع ومنظومته القيمية والمعيارية ما يمثل بيئة مناسبة لتنامي العنف بكل مستوياته وفي المجالات كافة التي يتفاعل في اطارها الافراد. ابتداء من الاسرة وانتهاء بالمجتمع بوصفه بنية كلية تعتريها مجموعة من الاختلالات اذ اصبح العنف سيد الموقف وبات اللجوء اليه او التهديد به لفض المشكلات البسيطة او المعقدة امراً محتوماً، الى الحد الذي غدا يهدد فيه بتغيير طبيعة العلاقات القائمة، فلا يكون هناك مجال للتعاون وتنتفي عمليات الاخذ والعطاء، وتصبح القوة او التلويح بها هي اللغة السائدة.
الصراخ بدل الحوار
توضح الباحثة في هذا المفصل كيف ان العنف يظهر في المجتمع نتيجة لمجموعة من العوامل التي تضغط على الفرد وتعمل على تقليص قدراته في توجيه سلوكه بصورة ذاتية كما تجعله عاجزاً عن تقبل الضوابط والاحكام في مجتمع متأزم ومن نتائج هذا الوضع ان اصبح الفرد غير قادر على ضبط ذاته ويميل الى التمرد والتهكم كما اتسم بالخشونة والقسوة، على الاصعدة كافة، فعلى صعيد الاسرة حل الاكراه والقسر والصراخ بين اعضائها بديلاً عن التفاهم والحوار الهادىء في علاج بعض المشكلات
عبارات نابية
وتستشهد جميل ببعض العبارات النابية التي تعكس سلوك بعض افراد المجتمع الذي يقع تحت ضغوطات اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية متازمة لاسيما العبارات النابية التي يطلقها الباعة وسائقو المركبات في الشارع ما يسميه بعضهم (اجتماعية نفوره من المجتمع) او انحراف عن معيار العلاقات الانسانية الرقيقة.
تقول: ان ظواهر من هذا النوع تقع من جانب الافراد، او تمارسها المؤسسة الاجتماعية خلال محاولاتها لاخضاع اعضائها، عندما تفشل طرائق الاقناع الاخرى هي التي كونت (المشكلة) التي تاتي الدراسة الحالية لازالة الغموض عنها والتعريف بها، انطلاقاً من ادراك المؤلفة: ان الصور المختلفة للانحراف التي يشهدها المجتمع في الظرف الحالي انما هي شاهد ومؤشر على وجود تناقضات كامنة في بناء المجتمع تضغط على الفرد، وتؤدي الى ان ينحرف الفعل الاجتماعي عن المنظومة المعيارية التي تحكم مساره، فيتخذ شكل خروقات تهدد النظام الاجتماعي وتتبدى في ارتفاع معدلات الجريمة، او في ظهور انماط اجرامية لم يشهدها المجتمع قبلا، او قد تتمثل في ارتفاع حوادث العنف التي ترتكب للتفريج عن التوترات المختزنة لشرائح سكانية تعطي اكثر مما تاخذ.
انهيار الانتماء الاجتماعي
وتوضح الباحثة اهمية البحث الذي تقوم به اذ تاتي اهميته من الخطورة التي تنطوي عليها ظاهرة العنف الاجتماعي بوصفه مؤشرا على مجموعة من التوترات التي تعتري تآلف الجماعة ودليل على الانقسام والتناقض في المصالح والمعتقدات من شأنه ان يخلق النفرة وسوء الظن والريبة وانهيار الانتماء الاجتماعي لاسيما في مجتمعنا الذي تعرض لاهتزازات اجتماعية واقتصادية كبيرة خلال العقود الاخيرة تركت اثاراً واضحة على انماط سلوكه الاجتماعي لا يمكن تجاهلها وعدم الوقوف على اسباب ظهورها وتناميها بين افراد المجتمع العراقي لذا توخت الدكتور اسماء في دراستها للعنف في المجتمع العراقي توفير قاعدة معلومات تصف العملية العنفية من خلال استجلاء بعض مظاهره ومسح مختلف الميادين التي ينتشر فيها من اجل الكشف عن مستوى العنف السائد في المجتمع والتعرف على اشكال العنف السائدة لاسيما البدني، تخريب الممتلكات ,السب والشتائم والسخرية والتهكم فضلاعن الكشف عن مستوى العنف الاجتماعي تبعاً للاماكن التي يتوزع فيها اي الاسرة والشارع ومكان العمل والمجتمع عموماً فضلا عن معرفة اشكال العنف الاجتماعي في الاماكن المشار اليها في اعلاها اضافة الى ذلك الكشف عن مستوى العنف تبعاً لمتغيرات الجنس، والعمر، والمستوى الاجتماعي والاقتصادي، المهنة، والمنطقة السكنية، والحالة الاجتماعية، والتعليم، وحجم الاسرة.
ما هو العنف؟
وهنا تذكر جميل تعريفات عديدة للعنف الاجتماعي Violence وتتنوع، بتنوع زوايا البحث وايديولوجيا الباحث وتخصصه العلمي، ولاجل اعطاء صورة واضحة تشتمل على الاستعمالات المختلفة للمصطلح، اذ حاولت ان تتقصى مفهوم العنف تبعاً للحقول المعرفية التي تم تداولها فيها.الااننا حاولنا من خلال قراءتنا للكتاب التركيزعلى العنف الاجتماعي باعتباره اكثر انواع العنف السائدة في مجتمعنا كما انه يختلف عن الانواع الاخرى للعنف.
وتجدر الاشارة الى ان (اجتماعية العنف) هنا تحدد مجاله وحقله، وهذا يعني ان الصفة الاجتماعية الملحقة
بالمفهوم لاتمنحه المزايا النظامية التي تطبع الحياة الاجتماعية، فلكي يكون الفعل اجتماعياً ـ كما يتفق على وصفه كل من (فير) و(بارسونز) ـ يجب ان ياخذ في الحسبان وجود الاخرين ويتاثر بهم في مجراه، كما يجب ان يكون له هدف محدد يخدم حاجات ومصالح لفاعل ومحكوم بتنظيم معياري وقيمي هذه الشروط لاتنطبق على السلوك العنيف، اذ انه فعل صدامي يخرج عن اطار التوقعات .
إثارة العنف
في المبحث الثالث من الكتاب تشرح الباحثة مفهوم العنف مع عدد من المفاهيم الاخرى القريب منه في المعنى ما يؤدي احيانا الى الخلط بينها، ومن اهم المفاهيم التي يجب التمييز بينها في علاقتها بمفهوم العنف هي: العدوان والقهر والقوة والصراع وربما تكون جميل في هذا المبحث عمدت الى التركيز على المفاهيم المرتبطة كالقهر والصراع باعتبارهما مفاهيم شائعة في المجتمع العراقي وغالبا ما يستعمل العنف والعدوان Aggression على انهما مترادفان، اذ تعرض نظريات العدوان في اطار الحديث عن العنف او العكس، ويستعملها بعض الباحثين بالتبادل بشكل يصعب الفصل بينها
يستعمل مصطلح العدوان لوصف ظواهر متباينة ظاهريا مثل الاشاعة. والنكات، والميول الانتحارية، والنزوات العدائية وكذلك الاعمال التدميرية، وهو مايدل على ان العدوان مفهوم فضفاض ولم يتبلور بعد.
القاهر والمقهور ؟
تقول جميل: ان القهر coercion يمثل وجهين لحقيقة واحدة. اذ يستعمل المفهومان للاشارة الى ممارسات ذات طبيعة مشتركة تدل على الايذاء والقوة والاكراه، الا انهما يختلفان من ناحية الهدف والجهة التي يصدران منها، فالقهر يصدر من جهة خارجة عن الانسان مثل الطبيعة او من جهة تحتوي على عناصر بشرية، ولكن لايملك الفرد اية قدرة على تغييرها او تعديلها، مثل النظام الاجتماعي او المؤسسة الاجتماعية، وقد يتوافر لبعض الاشخاص القوة والسلطة التي تبرر لهم استعمال القهر ضد الاخرين، وهذه السلطة هي الحد الفاصل بين عنف القاهر وعنف المقهورين.
على حين يرى (فيرابيند) من خلال نظريته عن الحرمان النسبي: ان القهر يعد متغيراً يتوسط العلاقة بين الاحباط Frustration وما يتمخض عنه من مظاهر مختلفة. تتجلى بالاشكال المتفاوتة للعدوان وتأسيسا على ماسبق يمكن القول ان العنف يرتبط بالقهر في علاقة جدلية (حوارية) دائمة بحيث يصعب معها الكشف عن نقطة البداية. فالعلاقة القهرية التي تربط الفرد بالنظام الاجتماعي والهادفة الى السيطرة على عنف الافراد سرعان ماتؤدي الى خلق وضعية مولدة للعنف وهكذا دواليك.
ثقافة العنف
هنا تتبنى جميل ثلاثة اتجاهات رئيسة تفسر ظاهر العنف , الاولى سوسيولوجية: تمثلت في الطروحات التي قدمتها نظرية التبادل الاجتماعي والمنظور التفاعلي الرمزي، والنظرية الصراعية. والثانية فلسفية: ممثلة بالفهم الظاهراتي للعنف. اما الثالثة: سايكولوجية، ركزت على طبيعة السلوك العنفي. اما بوصفه غريزة، او دافعاً مكتسباً، او سلوكاً متعلماً لذا يحيلنا العرض النظري للاطر المفهومية التي فسرت العنف في هذا الكتاب الى مجموعة من العوامل، يمكن ان تسهم بدرجة او باخرى في دفع الفرد الى ارتكاب العنف، او اللجوء اليه بوصفه الاستجابة الاكثر قابلية للظهور، في اثناء التفاعل اليومي، وفي مجالات الحياة الاجتماعية كافة. وقد تم ارجاع هذه العوامل الى ثلاثة مصادر اساسية، الغاية من ذلك هو دراسة اثر هذه المسببات ضمن سياقاتها الكلية.
وجدير بالملاحظة ان هذه المصادر لاتنفصل عن بعضها فهي ظل حقيقي لما هو سائد في الحياة الاجتماعية ومظاهرها، وتعمل مجتمعة على انتاج واعادة انتاج ماهو سائد في مجال السياسة والدين والاقتصاد والاسرة والثقافة من عنف واكراه.
وتمثل العائلة اولى هذه المصادر بما تنطوي عليه من علاقات عمودية تستند الى بنية التسلط.
وفي اعتمادها على الفلسفة العقابية في عمليات التنشئة الاجتماعية، كذلك في تغييبها للعلاقات الدافئة القائمة على المحبة والرعاية وعدم التمييز بين الابناء.
كل هذه العوامل جعلت من الاسرة بيئة مناسبة لانتاج العنف، ولعل من الضروري الاشارة الى ان العنف الذي يمارس في الاسرة ياخذ ابعادا اجتماعية تتجاوز حدود ماهو قائم او سائد في الاسرة عينها
العنف في بغداد
قامت المؤلفة في الباب الثاني من الدراسة باجراء مسح ميداني على فئة الراشدين من سكان مدينة بغداد، المجموعة الاحصائية المراد استجوابها (دراستها)، ولضمان تمثيل العينة للمجتمع الاصلي، فقد تم سحبها من مناطق سكنية تشتمل على المستويات الاجتماعية/ الاقتصادية الدنيا والمتوسطة والراقية.
ولابد من الاشارة الى ان العينة اقتصرت على الراشدين فقط ومن المستوى الاجتماعي ـ الاقتصادي المتدني المتمثل بمناطق " الفضيلية، شارع الكفاح" والمستوى الاجتماعي ـ الاقتصادي المتوسط في مناطق (شارع فلسطين، الكرادة، الخضراء) واخيراً المستوى الاجتماعي ـ الاقتصادي الراقي وتمثل في (حي القادسية، اليرموك، الجادرية).
اما حجم العينة فقد حدد اعتماداً على القياس الاحصائي الذي وضعه (موزر) لاختيار حجم العينة.
اعلى درجات العنف؟
لغرض معرفة مدى شيوع وتكرار العنف في مجتمع البحث، قامت الباحثة باحتساب الوسيط لدرجات الافراد على قائمة العنف الاجتماعي، وقد بلغ (151) واستناداً الى هذه الدرجة قسم افراد العينة الى مجموعتين تبعا للدرجات التي حصلوا عليها وهي:
ا ـ مجموعة الافراد الذين اظهروا عنفاً بدرجة منخفضة وذلك على درجات اعلى من الوسيط.
ب ـ مجموعة الافراد الذين اظهروا عنفا بدرجة منخفضة وذلك بحصولهم على درجات اقل من الوسيط.
وتأسيسا على ماسبق، فان الافراد الذين سجلوا درجات اعلى من الوسيط عدوا من الافراد الذين اظهروا عنفا بدرجة كبيرة، وكذلك الحال مع اولئك الذين سجلوا درجات اقل من الوسيط، فقد عدوا افراداً اظهروا عنفاً بدرجة منخفضة.
ويتضح من ذلك ان مجموعة الافراد الذين سجلوا درجة عالية على مقياس العنف الاجتماعي كانت اكثر عددا من المجموعة الاخرى التي سجلت درجة واطئة على المقياس نفسه وهذا يعني ان العنف
يشيع داخل المجتمع بدرجة
عالية .
توصيات واقتراحات
توصي الدراسة بضرورة ابعاد اساليب القهروالاكراه في المؤسسات التربوية المختلفة بدءا من العائلة وانتهاء بالجامعة كما توصي برفع المستوى المعيشي للمواطنين وتحسين مستوى الخدمات اذ ان الندرة الاقتصادية والحرمان يؤديان الى شيوع حالة التنافس الى حد التعادي احيانا الى جانب ذلك توصي الدراسةالحالية بضرورة تبني مضامين قانونية تنبذ العنف وتضع الجزاءات الواضحة على من يمارسها اضافة الى الاهتمام بالمرأة ودعم القوانيين التي تحظر ضرب الزوجات ,الى جانب ذلك توصي بضرورة ابتعاد وسائل الاتصال ومنها التلفزيون عن برامج العنف والاتجها بخطابها الاتصالي الى دعم واسناد المجتمع والتاكيد على برامج الارشادالمتضمنة نبذ العنف