برنامج حكومي لاستعادة المتبقين من المنافي
بغداد - علي السومري- الصباح
وهو يصعد سلالم بناية كانت قبل وقت قصير مظلمة، شعر حسين عبد طاهر الخزعلي بالغبطة بعد ما رأى العيادة التي طالما راجعها تعج بالمراجعين وأضواؤها تنير وحشة جدرانها الاسمنتية من جديد، وكلما كان يخطو نحو وجهته، تسمعه يتمتم شاكرا ً ربه نعمة الأمن التي أعادت أطباء العراق لبلدهم، لاعنا ً ظروفا عصيبة مرت أرغمت الآلاف منهم على المغادرة صوب المجهول بعد أن أصبحوا هدفا ً سهلا ًللقتلة .
(الخزعلي) الذي لم يخف سعادته بالعودة الميمونة لأطباء وطنه، تمنى أن تلتزم الدولة بتعهداتها إليهم والى المواطنين من أجل إعلاء شأن العـراق بين الأمم .
لعل التحسن الأمني الملحوظ نتيجة نجاح تطبيق خطة فرض القانون منتصف العام 2007 ، العامل الاساسي في عودة الاطباء فبعد أن وصل عدد المغادرين منهم البلاد بسبب استهدافهم من قبل مسلحين بهدف افراغ البلاد من عقولها او لاستحصال فدية منهم نحو ثمانية آلاف طبيب، ما دفع الحكومة ممثلة ً برئيسها نوري المالكي، اطلاق مشروع يشجع على الهجرة العكسية للداخل بعد أن تراجعت حدة الأعمال الارهابية التي حصدت أكثر من مائة وسبعين طبيبا ً وطبيبة اختصاصيين بعد سقوط الدكتاتورية في 2003، وبحسب احصائيات وزارة الصحة وصل عدد الأطباء العائدين لغاية
الآن الى أكثر من ثمانمائة وخمسين طبيبا توزعوا ما بين المستشفيات والمراكز الصحية المنتشرة في عموم الوطن.
وتشير معلومات جديدة، الى أن رئيس الحكومة وجه وزارة الصحة بعقد اتفاقات مباشرة مع العشرات من الأطباء العراقيين الكبار الذين يتوزعون مابين دول العالمين العربي والغربي.
مساع جادة
الدكتور صالح الحسناوي وزير الصحة وما أن تم الإعلان عن مشروع إعادة الأطباء حتى شكل لجنة خاصة بهذا الشأن برئاسة الوكيل الاداري الدكتور خميس حسين السعد وبعض المسؤولين في وزارته.ولكي نصل الى الحدود التي انتهى عندها مشروع إعادة أطباء العراق وأيضا ً للبحث عن أجوبة لاسئلة تشغل بال الكثير، قصدنا وزارة الصحة للقاء وكيل الوزير الدكتور خميس السعد، الذي أوضح بأن أهم أهداف المشروع قد تحققت ً وهي اشاعة روح الطمأنينة لدى الأطباء المتواجدين خارج البلد، الذين أدركوا حقيقة وجدية مساعي الحكومة في توفير الأجواء المناسبة لعودتهم وتوفير الحماية والأجواء المناسبة لأداء عملهم، مضيفا ً: بأن اجراءات عودة الأطباء سهلة جدا لا تتعدى ملء بعض الأوراق تتم بعدها إعادتهم الى الوظيفة، مشيرا ً: الى ان وزير الصحة يشرف على عودة الأطباء بنفسه بعد أن يوقع أوامرهم الادارية بمدة لا تتجاوز الاثنين وسبعين ساعة فقط، والتي تخولهم العودة الى وظائفهم مباشرة ً وهي اقصى مدة تفصل بين الطبيب وعمله.
(السعد) أوضح ان رئاسة الوزراء دعمت وزارة الصحة بألف درجة وظيفية ووعدتهم بزيادتها عند الحاجة، وهو ما رآه السعد ترجمة فعلية لخطة الحكومة في استعادة ابنائها الأطباء الذين يمكنهم بحسب خطة عمل الوزارة من اختيار أماكن عملهم الجديد دون تدخلها.
أما عن حقوق الأطباء الشهداء، أكد الوكيل الاداري بأن حقوقهم محفوظة ومعاملتهم تكون خاصة شأنهم في ذلك شان شهداء العراق.
آلاف الوظائف
موافقة وزير الصحة على اعادة الاطباء تستحصل خلال مدة لا تتجاوز (72) ساعة واحيانا ً قد لا تستغرق (24) ساعة فقط هذا ما أوضحه الدكتور طالب عودة عبد الله أحد المشرفين على حملة اعادة الأطباء، مضيفا ً: (اصدار الأمر الوزاري يستغرق أقل من عشرة أيام، يلتحق بعدها الطبيب الى عمله مباشرة، اما إذا كان خارج العراق فيمكنه العودة خلال شهر من تاريخ امره الوظيفي)، وتابع: (كل الصنوف، مقيم دوري، طبيب تدرج، ممارس وطبيب اختصاص يمكنهم العودة بغض النظر عن الشهادة التي حصل عليها، كما يمكن ً لأطباء متقاعدين دون السن القانوني بالعودة أيضا وفق سلم الرواتب الجديد.
حاولوا اخافتنا
تجوالنا في اروقة الوزارة أتاح لنا فرصة لقاء الكثير من الأطباء العائدين لبلدهم بعد سني الغربة بينهم الهام حسن الشرع دكتورة صيدلانية، قالت: ان ظروف العراق إبان حكم الدكتاتورية وما واجهوه من تعسف وظلم جعلهم كعائلة يختارون الهجرة العام 1997.
(الشرع) أعربت عن سعادتها للعودة الى بلدها ومحافظتها كركوك مشيرة الى سهولة الإجراءات المتبعة في الوزارة بالقول: (لم اكن أتوقع أن تتم معاملتنا بعد عودتنا بهذه الطريقة الرائعة، لقد اخافوا من العودة لبغداد، لكنني اقول لكل المتخوفين هناك والذين يتمنون العودة باسـرع وقت بان كل ما نسمعه عن العراق محض كـذب، الوضع هنا جيـد جدا ً).
طبيبة اخرى اختصاص اطفال كانت تملأ اوراق عودتها اوضحت ان السنة التي قضتها خارج العراق كانت اشبه بالجحيم، مشيرة ً الى ان تعامل الدول مع المغتربين غير لائق وبانهم كانوا يعاملون وكأنهم عالة على تلك البلدان، علما ً انهم كانوا يمارسون مهنة الطب خدمة لتلك البلدان مشيرة ً الى انها اضطرت لترك زوجها هناك لترى بعينها مقدار ما تحقق من امن في العراق والذي قالت بانه افضل مما يعلن في وسائل الإعلام التي قالت بأنها لا تسلط الضوء الا على الموت.
حوار بلا موعد
عند الشارع الرئيسي القادم من الباب المعظم والمتجه الى وزارة الصحة رأيته يتلفت كما السائح متأملا ً أماكنها بخشوع، إحساس ما جعلني أتجه إليه لأسأله، كم من السنوات مرت دون أن ترى هذا الشارع وتلك الوجوه، أجاب الدكتور حسين الحسني:
- أكثر من عشرين سنة وقال: أنا طبيب وجئت عائدا ً لبلدي بعد أن سمعت بقرارات الحكومة وفرص العودة للعراق وتوفير الأمن للعائدين وقد تنقلت بين دول عدة ومارست مهنتي بها، بينها كندا والأردن والامارات قبل ان اعود الى بغداد.
تجارة الطاغية
البحث عن نتائج خطة رئاسة الوزراء لاعادة أطبائنا المغتربين قادتنا الى مستشفى الكندي التعليمي للقاء مديره الدكتور كريم بهار ندة، وسماع رأيه بهذه الخطوة وما وصلت اليه من مديات على أرض الواقع.
السير في مستشفى الكندي ورؤية كم المراجعين أشعرنا بأهمية هكذا مشروع لما له من دور في إعادة الطب العراقي الى ما كان عليه، قبيل تسنم الطاغية مقاليد الحكم أواخر السبعينيات ودخول حرب الثماني سنوات تبعتها سنـّي الحصار العجاف، التي ارهقت العراق بكل المجالات وبالأخص الطب، حتى وصل الحال أن يتاجر النظام البائد باجساد اطفال العراق طمعا ً بمذكرات تفاهم أثبتت الأيام إنها تناثرت في جيوب من لا يملكون ذمة ولا شرفا، أبواق الطاغية العرب والأجانب.
الدكتور (ندة) أوضح في حديثه بان عملية إعادة الأطباء المغتربين أو الذين اضطروا لمغادرة العراق خلال الخمس سنين المنصرمة كان قرارا ً حكيما ً اتخذته الحكومة العراقية في الوقت المناسب، وخصوصا ً إن العراق يحاول الآن إعادة بناء مؤسساته وفق معايير عالمية، كما أبدى مدير مستشفى الكندي التعليمي سعادته وهو يرى بعض هؤلاء العائدين ينتسبون الى مشفاه بعد غربتهم سواء أكانوا صيادلة أم اختصاصيين او أطباء اسنان.
موضحا ً أن العراق بحاجة اليوم لكل الاختصاصات.
ملاكات طبية
هل إن إعادة الأطباء فقط كافية لرفع مستوى القطاع الصحي في العراق ؟ أم ان العملية لا تكتمل إلا بتوفر مستلزمات أخرى؟ سؤال توجهنا به الى كريم علي وداعة معاون مدير شؤون التمريض في مستشفى أمراض الجهاز الهضمي والكبد التعليمي، الذي رأى أن عودة الأطباء لا شك تسهم في تقدم وتطور جميع المستشفيات، لكنه أضاف بانها غير كافية ما لم ترافقها عملية تطوير وتوفير الأجهزة والمعدات والمستلزمات الطبية اضافة لبناء وترميم المستشفيات، مشيرا ً الى ان هذه الخطوات تتبعها أغلب البلدان المتطورة في هذا المجال.
وداعة أكد أيضا ً اهمية العناية بالملاك الطبي وتوفير سكن له وتحسين رواتبه وتطوير عمله من خلال ايفادات مشتركة مع الأطباء ستسهم لا محالة في إعلاء شأن الطب في مستشفياتنا بعد أن فقدت هذه المؤسسات خيرة اختصاصييها، مبينـّا: ان مستشفاهم (الجهاز الهضمي) خسر ثمانية أطباء اختصاصيين، هاجروا من العراق خوفا ًعلى حياتهم، عاد منهم واحد حتى الآن، مشيرا: الى أن الاتصالات مستمرة في ما بينهم وبين أطباء عراقيين كثر غادروا البلد ويرغبون الآن بالعودة.
معاون المدير تمنى بشدة أن تتم اعادة بناء وتطوير مستشفيات العراق لئلا يشعر الطبيب المغترب العائد لبلده بالصدمة وبالفارق بين ما تركه هناك وما عاد إليه، وهو ما قال بأنه لا يتحقق إلا من خلال ستراتيجية وطنية تعيد للطب العراقي مكانته الحقيقية، وقال: إن هذه الأسس العلمية في بناء المؤسسة الطبية ستسهم أيضا ً في اعادة الأطباء من خارج العراق.
وفي ختام حديثه وجه كريم علي وداعة رسالة الى رئاسة الحكومة قال فيها بأن على الأخيرة ضمان عدم اختراق الدوائر الأمنية ، وعدم السماح للمجرمين بالعودة للشوارع بعد القاء القبض عليهم وبعد أن قاموا بقتل خيرة الناس من أصحاب الشهادات والأساتذة والمواطنين، وذلك ما طالب به العديد من المواطنين.
كوليرا وسرطان
آراء كثيرة واشخاص عديدون رأيناهم وتحدثنا معهم بشأن عودة أطبائنا العراقيين من منافيهم، الحاجة حسنة عبد تمنت أن ترى هؤلاء الأطباء يعودون لممارسة عملهم في بلدهم بدلا ً من دول الغربة، مضيفة ًبلهجتها الجنوبية : (يمه جا اذا ما اترجعون هسة شلنا بيكم، شو أهلكم أكلتهم الكوليرا من صفحة والسرطان من الأخرى).
فيما قال أحمد سلمان وهويحمل طفله المريض على كتفه في أحدى العيادات الشعبية : (نعم لابد من توفير الآليات الكفيلة لحمايتهم قبل أن يعودوا وعلى الحكومة أن تفي بما تعدهم به، وإلا سينتج هجرة عكسية قد يضطر حينها حتى المضمدون للهجرة معهم).
حلم عراقي
أما زهير الساعدي فقال : بأن الطبيب العراقي ككفاءة مشهود له منذ القدم بقدرته على معالجة جميع الأمراض المستعصية، إلا إن ما واجهه من خطر دفعه للهجرة بعيدا ً عن بلده، وهو ما اثر سلبا ً بحسبه على مستوى هذه المهنة الانسانية، متمنيا ً عودة جميع المهاجرين سواء الذين رحلوا زمن الدكتاتورية أو بعد سقوطها الى وطنهم والبدء من جديد في بناء العراق الذي يحلم به كل مواطنيه. أعتقد ان جولة بسيطة للمستشفيات والمراكز الصحية والعيادات الشعبية التي زرناها في هذا التحقيق لكفيلة بادراك أهمية خطوة رئاسة الحكومة، في استعادة أبنائها المرحلين عنوة عن بلدهم، فزحام المرضى المفترشين ممرات المستشفيات أو المنهكين بانتظار مصاعد المستشفيات العاطلة أو المصطفين كسمك السردين بانتظار السونار، تشير بما لا يقبل الشك بعظمة هذه الإشكالية التي دفعت المواطنين ولعدم وجود خبرات طبية في وطنهم باللجوء الى دول الجوار لاجراء عملياتهم سواء الصغرى او الكبرى وهو ما يستنفد موارد البلد اضافة لهيبته، وخصوصا ً إذا علمنا أن أغلب من يقومون بتلك العمليات هم اطباء عراقيون اضطروا بلحظة من الزمان للهروب من طلقة طائشة قد يطلقها مجرم ملثم يجوب شوارع العراق.