This site uses cookies for analytics and personalized content. By continuing to browse this site, you agree to this use.
We have updated our Privacy Notice, click here for more information Acknowledged

الطوافات: نساء يعملن في الصحاري وبين الألغام بحثاً عن الأسلاب والنفايات من اجل لقمة العيش
05/11/2008

 

 

نقاش | سليم الوزان | تطلق عليهن تسمية "الطوّافات" وهنّ النساء اللواتي يجبن الأحياء وأطراف المدينة ويذهبن إلى حيث لا يجرؤ أحد على الوصول، بحثاً عن الأسلاب والنفايات. نساء خرجن من أحزمة الفقر والأحياء العشوائية التي نمت بصورة سريعة في البصرة وامتهنّ أعمالا لا تخطر في البال. في سنوات الحصار الدولي على العراق

خلال التسعينيات ظهرت "علوات" أو ورشات ومعامل خاصة لإعادة تدوير المواد المستعملة، وما زال الكثير منها مستمراً في العمل وموزعا على الأحياء الشعبية للبصرة، وقد لجأ أصحاب هذه الورش إلى الاستعانة بالنساء للعمل لصالح هذه الورش كعمالة رخيصة.
أم عواد (45 سنة) من سكنة قرية الحيانية "طوّافة" سابقة، بترت ساقها قبل سنتين بانفجار لغم في منطقة الشلامجة على الحدود العراقية الإيرانية (18كم عن مركز مدينة البصرة) بينما كانت تبحث عن مخلفات لأدوات معدنية. وتعمل الآن في داخل إحدى الورش أو "العلوات" غير المرخصة في البصرة، تعرف باسم صاحبها "رعد الدراجي".
بعد بتر ساقها توقفت أم عواد عن مهمة الطواف وأوكلتها لولديها اللذان يجوبان الأحياء ويبحثان في القمامة لجمع الزجاجات الفارغة والبلاستك والأحذية الجلدية وقطع الكارتون المقوى والصفر والنحاس والأجهزة الكهربائية العاطلة وبقايا مكائن السيارات والمحوّلات، أما هي فتعمل 12 ساعة في اليوم داخل الورشة في مهمات متعددة، أهمها فرز الحمولة وإزالة الأوساخ العالقة فيها، قبل أن يعالج قسم منها في الورشة، بينما يرسل قسم آخر إلى مصنع صغير في بغداد لصهره وإعادة تصنيعه.
عملها "يكسر الظهر" كما تصفه، "فهناك مهمات كثيرة علينا القيام بها، منها تغطيس الأحذية في ماء يغلي بقدور كبيرة حتى تنفصل الكعوب عن الجلد، ومن ثم خياطة أكياس كبيرة تعبأ فيها الكعوب لترسل إلى بغداد، ونقوم أيضا بكشط أسلاك الكهرباء للحصول على شرائط النحاس ولدينا دائما المزيد من الأعمال".
وتضيف المرأة التي تجلس على مقعد منخفض ممدة ساقها الوحيدة على الأرض بينما تنشغل بكشط الاوساخ عن زجاجة فارغة: " أغلب النساء اللواتي يعملن هنا أتين من أحياء الحيانية والقبلة الفقيرة وهناك نساء نزحن مع عوائلهن من محافظات أخرى ومن الهور وهناك عوائل كاملة تعمل في ورشتنا".
لم تتلق أغلب النساء في الورشة تعليماً، فهناك اثنتين أو ثلاث فقط أتممن المرحلة الابتدائية، ليست من بينهن أم عواد التي تقول: "الرجال في العائلة والعشيرة، لا يحبذون تعليم البنات، أما بالنسبة لي فظروف حياتي الصعبة منعتني من التعلم.."..
بدافع البحث عن لقمة العيش تتجه بعض نساء ورشة "الدراجي" ونساء من ورش أخرى بما يشبه تحركا جماعيا نحو الصحراء على الحدود السعودية العراقية.
زهرة (26 عاما) من سكنة منطقة القبلة، تبحث مع العديد من زميلاتها "الطوافات" في منطقة حفر الباطن عند الحدود السعودية، على مخلفات معدنية من حرب الخليج الأولى "عاصفة الصحراء" والحرب الأخيرة.
في نظر أولئك "الطوافات"، خلفت الحروب السابقة منجماً من المواد والأسلاب المهجورة على الحدود؛ أعتدة وأسلحة مدمرة وسيارات، مدافع ودبابات وصواريخ ومواد بناء وإطارات. تقول زهرة لمراسل (نقاش): "يقتضي العمل أن تحملنا سيارات البيك آب إلى الحدود، في الغالب نبقى هناك يومين أو ثلاثة، نجمع ما نجده ونحضره للورشة" وتضيف: " تلك المناطق صحراوية وبعيدة ولا ترتبط بشوارع معبدة لذا يقوم رجالنا باستطلاع المناطق وحجزها أي تأمينها ضد العصابات والسلابة والورش الأخرى فنحن نواجه منافسة شرسة".
وتتابع زهرة شرح طبيعة العمل: "عند وصولنا إلى الصحراء نبدأ بالبحث عن المواضع العسكرية التي طمرتها الرمال، وإذا حالفنا الحظ يمكن أن نعثر على عربة عسكرية معطوبة أو مدرعة نقوم بتفكيكها وحمل الأجزاء المفيدة منها".
أما حمزة خضير، الذي يملك سيارة بيك- آب ينقل بها الطوافات فيقول: " عملنا يعج بالمخاطر.. طريق العودة صعب فالرمال تضلل السائق خاصة إذا أوغل في صحراء محافظة السماوة، كما أن كثيرا من الدروب الصحراوية شقها الأميركان أو الجيش العراقي بصورة عشوائية وتقودك إلى مواضع مجهولة وقد يفقد السائق الطريق ويدخل حقل ألغام" ويضيف خضير مستاءً: " الحكومة لا تتركنا بحالنا.. أحيانا تعثر علينا دورية من حرس الحدود ويقومون بابتزازنا ماليا تحت طائلة التهديد بإفراغ ومصادرة الحمولة".
ويؤكد الدكتور سالم السعد، قسم الجراحة، في المستشفى التعليمي في البصرة "أن هناك أعدادا كبيرة من الأشخاص الذين تعرضوا لإصابات وبتر أعضاء جراء انفجار الألغام المنتشرة في المناطق الحدودية، بينهم نسبة من النساء من سكان الأطراف والرعاة على الحدود العراقية مع إيران والسعودية والكويت" ويتابع الطبيب الذي أشرف على بتر قدم أم عواد : "منهن من يحالفها الحظ بالوصول إلى مستشفى قريب ومنهن من يمتن على الطريق جرّاء النزف". ويشير السعد إلى غياب الوعي لدى الطوافات بالمخاطر الصحية التي تنجم عن التعامل مع مخلفات عسكرية قد تكون ملوثة بالإشعاعات، لافتا إلى أن "ورشات إعادة التصنيع غير المرخّصة، لا تتوفر فيها أدنى الشروط الصحية اللازمة للعمل".
الدراجي في "علوته" في البصرة القديمة التي تضم أيضا ورشة لإذابة المعادن، يجلس وراء مكتبه المعدني القديم منتظرا عودة النساء عند المساء وهو يدخن سيجارته: "أغلب النساء هنا بلا معيل. ليس لهن إلا الله ، لذلك عليهن الكد ليل نهار"، يقول الدراجي، ويتابع: "نحن نعتمد عليهن أكثر من الرجال فهن يتحملن أكثر، ويمكنهن اجادة أعمال جانبية أخرى كالخياطة في الورشة واعداد الطعام خلال رحلة البحث وأشياء أخرى".
يعتقد الدراجي أن هناك "خيراً" كثير مازال مطموراً تحت رمال الصحراء، لا يتطلب منه ومن ورشات أخرى سوى الجهد والمثابرة، ويعتقد أن ورشته "أمنت لنساء أرامل وفقيرات عملا شريفا يعتشن منه".
الباحثة الاجتماعية هند المياحي تصف ظروف العمل في ورشة الدراجي بـ"اللا إنسانية" وحمّلت مجلس محافظة البصرة والمسؤولين في شبكة الحماية الاجتماعية، المسؤولية عن أوضاع "النساء الطوافات". وتعتقد المياحي أن "قصور الجهات الحكومية في تقصي أوضاع هذه الشرائح المسحوقة، قادهن إلى امتهان أعمال تعرضهن للمخاطر والأمراض". وتعتقد الباحثة في جامعة البصرة أن تجربة شبكة الحماية الاجتماعية التي تشرف عليها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية "لم تحقق أهدافها المرجوة في البصرة ومحافظات أخرى من العراق، ولم تضمن للنساء المحتاجات حياة آمنة وكريمة" مشيرة إلى وجود "تلاعبات وعمليات تزوير يقوم بها مسؤولون في أحزاب نافذة ومعقبو معاملات، يقدمون أسماء لا تتوفر فيها الشروط المطلوبة على أنهم أشخاص مشمولون بالمساعدة، في حين تنقطع المساعدة عن من يستحقها فعلا".
وتضيف الباحثة أن "تقارير يتم تداولها الآن في مجلس المحافظة تشير إلى وجود نحو 40 ألف معاملة مزورة لتقديم المساعدة الحكومية لأشخاص لا يستحقونها".
وكانت وزارة العمل والشؤون الاجتماعية قد أصدرت قرارا بالتريث في تقديم المساعدات المالية إلى أن يتم تقصي الحالة المادية لأشخاص يعتقد أنهم غير مستحقين للحماية الاجتماعية، بينهم تجار كبار، كانوا قد قدموا طلبات للحصول على المساعدة، إلا أن هذا الأجراء أدّى إلى "تجميد معاملات لنساء فقيرات وأرامل هنّ بأمس الحاجة لوقوف الحكومة إلى جانبهن" حسب الباحثة البصرية.