«لا أرى أي جانب مشرق. منذ حطت قدماي على الأراضي الأميركية وانا أصارع لأعيش. احياناً، اشعر بأني في حلبة مصارعة الثيران، إن جاز التعبير»، «لماذا أبدأ من جديد في بلد جديد؟ لماذا خسرت كل ما بينته، في لحظة؟»، وألف لماذا تدور في رأسي بلا جواب»... هكذا بدأ اللاجئ العراقي بسام نديم حديثه متنهداً حيناً، ومتذكراً حيناً آخر. جاء بسام مع زوجته وابنته الصغيرة من سورية إلى سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا، وهو يعمل صباحاً في محل حلاقة وليلاً في مطعم، لتأمين لقمة العيش. وكان يعمل مدرساً في الموصل. ثم هرب مع أسرته، بعد تهديده بالقتل، لكونه مسيحياً.
ويقول: «لم أعد اشعر بنفسي منذ اشهر. أصبحتُ مثل الماكينة اعمل ليلاً ونهاراً. لا ارى ابنتي الا نائمة. ولا اتحدث الى زوجتي الا نادراً. ليس لدي اقارب او اصدقاء. كل شيء هنا مختلف. اندم احياناً لأني أتيت، على رغم اني بأمان».
وتقاطعه زوجته الشابة شاكية: «لسنا أفضل حالاً. لم يقدموا لنا مالاً أو ذهباً. زوجي كان يعمل لنعيش في العراق، ثم في سورية عندما لجأنا إليها. وهكذا بقينا في أميركا». إلاّ أن الحياة في الغربة أصعب، كما يوضّحان، فعلى الفرد أن يعيل نفسه. ولأن الزوجة لا تستطيع العمل بوجود الطفلة، اضطر زوجها الى إيجاد عملين، «لنسدد إيجار شقة صغيرة مكوّنة من غرفة نوم وصالون ومطبخ. ندفع ألف دولار، إضافة إلى الضرائب وفواتير الماء والكهرباء والهاتف والوقود والغذاء، طبعاً».
عراقيون كثر يشعرون بالندم على لجوئهم الى الولايات المتحدة، ويخشون المجهول. بعد خروجهم من «الجحيم» العراقي، وجدوا أنفسهم غارقين في مستنقع. «المنظمة العالمية للهجرة»، IOM، تعمل بالتعاون مع «مفوضية شؤون اللاجئين في الأمم المتحدة»،UNRWA، على إعادة توطين العراقيين الهاربين من الأوضاع الأمنية والاقتصادية والخدمات المتردية في العراق، في الدول الغربية، بعد لجوئهم الى سورية او الاردن او تركيا. وتمنح المفوضية اللاجئ، بعد مقابلة أولية، «وثيقة اعتراف بصفة اللجوء». وهذه الوثيقة تبقى صالحة مدة سنة، وتمنح حاملها فرصة للاحتماء بالمفوضية، لئلاّ يعود قسراً إلى بلاده، وتعطيه فرصة للهجرة إلى بلد ثالث.
وحتى العام الماضي، بقيت الأعداد الوافدة إلى الولايات المتحدة، من هؤلاء اللاجئين قليلة. ثم أقرت الحكومة الأميركية برنامجاً لإعادة توطين 12 ألف لاجئ، خلال العام الجاري، إثر انتقادات حادة وجهها المجتمع الدولي إليها، نظراً إلى انها تتحمل تبعات الحرب على العراق وآثارها. ومنذ شهر أذار (مارس) الماضي، أخذت مناطق أميركية مختلفة، لا سيما كاليفورنيا وديترويت ونيويورك ونيوجرسي، تستقبل العائلات العراقية، حتى صرحت الخارجية الأميركية بأنها تجاوزت العدد المقرر. ويتوقع مسؤولون استقبال المزيد، العام المقبل. إلا أن هذه الزيادة في معدلات القبول، لم يقابلها تحسين في برامج العيش للاجئين العراقيين، مقارنة بنظرائهم في دول أخرى.
يقول ابو عزيز، وهو رب عائلة من ستة أفراد، جاء إلى سان دييغو في كاليفورنيا، منذ 6 أشهر: «بعد شهرين، تنتهي المدة المقررة لاستلام المساعدات. ولم احصل بعد على عمل. ولا اعرف إذا كان في وسعي التمديد». ويرى أن العمل مرهون بالعلاقات، «وأنا لا اعرف أحداً. هناك من يجد عملاً عند الأقارب. والمؤسسة الخاصة بالتعليم والعمل، لم تقدم لي عملاً حتى الآن، على رغم أني احمل شهادة جامعية، ولدي خبرة في العمل المصرفي».
ويذكر أبو عزيز أن الجمعيات الإنسانية تقدم للاجئ «هدية» متواضعة، عند الوصول، قيمتها 325 دولاراً. ثم تحيل ملفه على الضمان الاجتماعي والصحي. وهذا يقدم بطاقة غذائية (فود ستامب)، قيمتها 175 دولاراً للفرد، إضافة إلى 300 دولار كراتب شهري، لتسديد مستلزمات العيش - والمبلغ غير كافٍ - وأثاث بسيط، وبطاقة صحية، تصلح لثمانية أشهر».
الـ «يو أن»، كما يدعوها لاجئون عراقيون، تؤمّن لهم وظائف وضيعة، ما يشكل صدمة لحملة الشهادات الجامعية بينهم. ومعظمهم يضطر، في نهاية المطاف، الى العمل لسد الرمق وتسديد ثمن تذاكر الطائرة التي أقلته.
يشتكي محمد خالد من عمله في التنظيفات، بعدما كان موظفاً في بغداد. ويذكر كيف استقبله موظف الـ «يو أن» في مطار نيوريوك بابتسامة عريضة تبعث على الأمل. وبعد إنجاز الأوراق الرسمية، ركب الطائرة الى مدينة ديترويت، حيث سكن في فندق رديء، «فاستأجرتُ شقة بأموالي». وهو هناك منذ تسعة اشهر، قضاها يدرس الانكليزية، علّه يتعلّم في ما بعد مهنة بسيطة، «فأحصل بواسطتها على عمل جيّد».
فور الوصول إلى مطار نيويورك، يُمنح اللاجئ الـ «وايت كارد»، وهي بطاقة تخوله التنقّل والعيش والعمل، داخل الأراضي الأميركية فقط لمدة سنة، ثم تُستبدل بالـ «غرين كارد» التي تمنحه حق العمل في الدوائر الرسمية، والسفر إلى كل البلدان، باستثناء العراق، إلاّ إذا قدّم أسباباً مقنعة. وبعد خمس سنوات يُمنح الجنسية الأميركية بعد اجتيازه امتحاناً خاصاً.
همسة اسحق، مهندسة، ترى أن الحياة في أميركا صعبة، «فالاندماج في هذا المجتمع مستحيل بوجود اختلاف عميق في الثقافة والعادات. وهو يعني الضياع أو الانصهار». ودليلها على ذلك أن معظم الجاليات المهاجرة تنعزل داخل مجتمعات تتشكّل من أفرادها، «فالصيني يعمل مع الصيني والمكسيكي يزور المكسيكي، والعربي يتقرب من العربي وهكذا... وإذا أردت العمل في تخصصي، يجب أن ادرس سنة لغة انكليزية وسنة اخرى لمعادلة شهادتي. وهو أمر صعب... لا أفهم لماذا لا يعترفون بشهاداتنا؟».
خلال العام المقبل، يُتوقّع أن تستقبل الولايات المتحدة 17 ألف لاجئ عراقي كحد أدنى. وقد يصل آلاف آخرون، من خلال برنامج توطين العاملين لدى القوات الأميركية في العراق. وصرّح جيمس فولي، المنسق العام لدى مفوضية اللاجئين، الشهر الماضي، أن أكثر من 12 ألف لاجئ عراقي وصلوا هذا العام. ويبقى هذا العدد أقل مما تستقبله دول أخرى. فالسويد، وعدد سكانها تسعة ملايين، استقبلت أكثر من 40 ألف عراقي منذ 2003. وتحاول الأمم المتحدة إقناع واشنطن بقبول 30 ألف لاجئ بدلاً من 17 الفاً، خلال العام المقبل. وذلك نظراً إلى وجود 85 الف لاجئ عراقي، يعانون الفقر المدقع والعوز، ويحتاجون الى اعادة توطين العام المقبل، ومعظمهم في سورية والاردن.
وتروي نادية إحسان، وهي أم لثلاثة وتتكلّم الإنكليزية، أنهم طلبوا منها العمل كبائعة ملابس، «وهذه كانت الصدمة الأولى التي أتلقاها. والصدمة الثانية أصابتني عندما عملت وقبضتُ الراتب الأول. الأجور متدنية، 10 دولارات في الساعة، فضلا عن العمل ليلاً ومن دون ضمان صحي. وهذه عيشة لم تألفها المرأة العراقية».
وتقول أم علي، جارتها، وأبناؤها شباب: «أميركا ليست جنة. نخشى على أولادنا من هذا المجتمع المنفتح، مثلما كنا نخشى عليهم من السيارات المفخّخة. كنا في العراق معززين مكرمين. وهنا نعمل لكسب القوت. صحيح أننا بأمان، لكن هذا الأمان على حساب بدء حياة جديدة بصعوبات جديدة».