حسين علي الحمداني- الصباح
المجتمع العراقي يمر بتغيرات جذرية عميقة شملت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ,. ولعل أكثر المتأثرين بهذه التغيرات المتلاحقة هم الشباب, ونعني بالشباب هنا تلك الفئة العمرية التي تمتد من سن 15 إلى 30 من العمر.
وقد اختلف علماء التربية وعلم النفس في تحديد خصائص هذه المرحلة وطولها, ولكنها المرحلة التي تشهد تحوّلات وتغيرات جوهرية في اهتمامات الشباب وسلوكه الاجتماعي واتجاهه نحو الاستقلال والفردية. ولعل هذا هو ما يخلق التناقض بينه وبين البيئة التقليدية التي تحيط به. فهو يريد أن يحرر نفسه من قيود الأسرة والمدرسة التي قيّدته طويلاً, وهو يريد في تلك المرحلة أيضاً أن يختار محيطه الاجتماعي الذي يندمج فيه ويتكامل معه ويكون قادراً على اتخاذ القرار وتحقيق ذاته.
الشباب والعولمة
ولعل هذه الفئة العمرية هي المعنية بعصر العولمة وقضاياه ومشكلاته, فالعولمة مشروع كوني للمستقبل كما يطمح واضعوه ومفكّروه والداعون إليه. لذا فإن الجيل الجديد هو الأسبق بالتعاطي مع هذه العولمة وأدواتها, فالكمبيوتر والإنترنت وشبكات المعلومات المعقدة أصبحت في متناول أيدي الشباب في سهولة ويسر, بينما تعتبر هذه الأشياء بالنسبة للأجيال الأكبر سناً معضلة لا حلّ لها. كما أن أنماط المعيشة التي تطرحها (العولمة) من مأكل ومشرب وعادات ثقافية موجّهة بالدرجة الأولى لأجيال الشباب, لأنهم الأقدر على الاستجابة والتقبّل السريع لأي مفاهيم جديدة خارجة عن المألوف, خاصة إذا كانت تقدم لهم بوسائل باهرة وبطرق تقنية تؤثر في نفوسهم.
مفارقة
إن أجيالنا الشابّة تشكّل اليوم نسبة غالبة في الدول العربية من مجموع السكان, وتدل الإحصاءات في الدول كثيفة السكان على أنهم يمثلون ثلث السكان. أما في الدول العربية المرتفعة مستوى المعيشة, فإن هذه النسبة تزداد إلى أن تصل أحياناً إلى النصف نظراً لقلة وفيات الأطفال بها وارتفاع درجة الوقاية الصحية والغذاء. نحن إذن أمام عشرات من الملايين من الشباب يتوقون إلى الأداء السريع وإحراز النتائج الفعّالة. أي أنهم يريدون أن يقفوا بعالمنا العربي على أبواب القرن الحادي والعشرين في الوقت الذي يعاني فيه هذ
ا العالم كثيراً من تقاليد قبلية وفئوية وطائفية خانقة وتخلّفاً وفساداً مستشرياً في العديد من البنى السياسية والاجتماعية ومن محاولات مستميتة لإبعادهم وتهميشهم من أطر الحكم السائدة.
إن أول ملامح الثورة الجديدة التي يطرحها علينا هذا القرن الجديد هو أنها تضع قيادة العالم في المرحلة القادمة في أيدي الشباب. وهناك ظواهر عدة تؤكد هذا الدور الذي بدأه الشباب في مجالات قيادة الشركات أو في الاستثمار أو داخل معامل الاختراع أو حتى في قمة السلطة السياسية في عدد من دول أوروبا. فثورة المعلومات وتراكمها جعلا هذا الجيل الشاب يستفيد من إنجازاتها دون حاجة إلى انتظار تراكم الخبرة الحياتية, كما أن الشباب أصبح يمثل القوة الاستهلاكية المؤثرة, وهم يضعون في هذه السوق مداخيلهم المبكّرة من سوق العمل في نوعية جديدة وغير تقليدية من البضائع. وقد أصبحوا يمثلون المستهلك الخفيّ الذي يوجه احتياجات الأسرة, ويفرض رغباته في المأكل والملبس وكافة مستلزمات الحياة الأخرى.
موقعهم في مجتمعاتنا
أين نحن مما يجري وما هو حال شبابنا وحالنا معهم وماذا أعددنا لهم؟
فشبابنا مازالوا يخضعون لأنظمة تعليمية واجتماعية غير صالحة للعصر الذي يعيشون فيه, ولا تلبي أدنى مطالب حياتهم اليومية, فلا تزال المناهج التعليمية والمقررات الدراسية تنتمي لما قبل عصر المعلومات والاتصال والعولمة الجارفة, ولا نزال نتوجس ريبة من الشباب وأفكارهم وطموحاتهم, ونضع الحواجز أمامهم لكبح جماح رغباتهم ومحاصرة طموحاتهم, ومازلنا ندفع بأعداد كبيرة منهم وخاصة المتعلمين إلى البحث عن مجتمعات جديدة تفتح لهم مجالاً لتحقيق طموحاتهم وتلبي رغباتهم وأحلامهم, فامتصت الدول المتقدمة نخبة المتعلمين والطموحين والجادّين من شبابنا ووصلت أعدادهم في بعض الدول إلى عشرات آلاف, ومَن بقي حبيس مجتمعنا تحوّل إلى أدوات متفجّرة سياسياً أحياناً واجتماعياً أحياناً أخرى, فجزء منه انجرف وراء ما انجرف, وجزء كبير لم يجد فرصته بعد, وهذه ظاهرة لا ننفرد بها وحدنا, بل هناك كثير من المجتمعات التي فقدت زمام قيادة الشباب انجرف شبابها إلى مصائد التطرف والعنف وعالم المخدرات والكحول, والإحصاءات تشير إلى بلد مثل روسيا, ففي السنوات العشر الماضية, أي منذ انفراط عقد دولة الاتحاد السوفييتي انتشرت في المجتمع الروسي أمراض حادة مثل العنف والمخدرات بين جيل الشباب, شباب المدارس والجامعات.
اغتراب
إن الشباب يعيش أزمة اغتراب حقيقي, إن مواجهة الشباب بالأنظمة البيروقراطية وأنماط السلطة غير الديمقراطية لا تبقيه خارجها فقط, ولكنها تجعل دوره ينحصر في الخضوع لها والالتزام بقوانينها ما يشعره بالعجز وعدم القدرة على تحقيق ذاته. والاغتراب هنا هو مرحلة وسطى بين الانسحاب من المجتمع والتمرّد عليه. هو يلجأ إلى ثلاثة أنواع من التصرّفات: إما الانسحاب من هذا الواقع ورفضه, وإما الخضوع إليه في الوقت الذي يعاني فيه النفور, وإما التمرّد على هذا المجتمع ومحاولة تغييره ولو كان ذلك بالقوة.
إن استمرار تجاهل قضية الشباب في مجتمعاتنا وعدم معالجة ما يلاقيه من تدهور في مناهج التعليم, وابتعاد الشباب عن الاهتمام بالسياسة, وجهلهم بتاريخ أوطانهم, وموقف اللامبالاة مما يجري حولهم هو نتيجة حتمية لسياسات التجاهل لمواجهة قضاياهم, وقد حوّلتهم تلك المشاعر المتناقضة في داخلهم إلى مخزن يغرف منه كل من لديه مصلحة خاصة في تجنيدهم واستخدامهم.
شبابنا اليوم إما أن يكونوا الأداة الأولى في انبعاث نهضة حديثة شاملة, وإما أن يتحوّلوا إلى وسيلة لتدمير ما موجود, ففي عصر العلم والعولمة, ليس أمامنا كثير من الخيارات, ولا الكثير من الوقت لنفكّر ونقرر, فنحن والزمن في سباق مميت, وعلينا - حكومات وقيادات في كل المواقع - أن نبدأ في وضع قضيتهم في مقدمة المسائل الوطنية, ونشرع في وضع الحلول وتطبيقها لمصلحة أجيال الشباب, هذا إذا أردنا أن نجتاز حاضرنا إلى مستقبلنا بأمان, وعلينا أن نعيد تنظيم مجتمعاتنا وحياتنا وفق واقعهم وحجم قوتهم ومدى تأثرهم بما يجري من حولنا في العالم, وأن نعترف بأن شبابنا لن يكونوا أقل تأثّراً بالدور الذي يقوم به نظراؤهم في بقية تلك القرية الكونية, فهم يراقبون وسيحاولون أن يكسروا قيود الواقع ويتمرّدوا عليه, وسيحاولون أن يؤسسوا سلطتهم بمعزل عن مجتمعاتهم.
التعليم
وكذلك عن السلطات الاجتماعية والثقافية التي يعيشون تحت مظلتها, ولكي نتدارك الوضع, وقبل أن يتجاوزنا الزمن لابد من الاعتراف أولاً بأن نوعية تعليمنا ومستواه لا يتناسبان مع العصر وطموحات الشباب, فالعالم من حولنا يتحدث بشكل دوري عن (نوعية التعليم) الذي يحتاج إليه في كل مرحلة من التطور المجتمعي, وربط هذا التعـليم بتطوّر الحياة في مجتمعاته, في الوقت الذي نتحدث نحن في مجتمعاتنا عن الأميـّة وتزايدها وتدهور مدارسنا وتسرّب أطفالنا من المدارس الذي وصل إلى أرقام مخيفة من الأطفال خارج المدارس, لابد لمواجهة هذا التدهور من إعادة النظر في فلسفة التعليم عندنا, والتحوّل من أسلوب الحفظ والتلقين, من دور الطالب متلقياً وقابلاً ومطيعاً لما يلقّنه إياه معلمه, إلى فلسفة التعليم عن طريق الحوار والمناقشة والتدريب على التعلم الذاتي, وأن ندمج التعليم بالثقافة بشكل متواز, وأن تصبح برامج الثقافة جزءاً من مناهج التعليم, كالفنون بكل أنواعها من موسيقى ومسرح ورسم وتربية بدنية إلى الثقافة العامة والقراءة الحرّة, وأن تصبح المكتبة جزءاً من المنهج الدراسي.
ومن ثم لابد من إقحام الشباب للمشاركة وسماع رأيهم في اتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية, وتوسيع دورهم في المشاركة في كل ما يتعلق بحياتهم وتطلعاتهم وطموحاتهم, , وأن يمثل الشباب في المؤسسات الديمقراطية والتشريعية, ويفسح في المجال لسماع مقترحاتهم والأخذ بها عند التطبيق, فالثقافة السياسية جزء وشرط مهم في ثقافة الشباب إن أردنا تدريبهم وتأهيلهم للقيادة في مرحلة لاحقة, ونحن بهذا ندخلهم في نسيج المجتمع بدلاً من أن يتحوّلوا إلى أدوات للهدم والتخريب, فوضع ثقافة متوازنة للشباب تراعي خصوصيتهم , وتسعى للحاق بالثقافة الحديثة المنفتحة على العلم والتكنولوجيا والفلسفة المعاصرة المتطلعة إلى مزيد من الكشف عن الكون وأسراره أمر لا مفر منه, وأن ندرّبهم على اكتشاف ثقافة الشعوب والأمم المعاصرة ليتمكّنوا من التعامل والتفاعل معها في هذا العالم الذي بدأت تتشابك فيه تلك الشعوب بثقافاتها المختلفة على درب التعاون والتلاقي والاندماج في ثقافة كونية تسعى لإشاعة السلام في العالم وتحتفظ في الوقت ذاته لكل شعب بخصائصه وعاداته وتقاليده وتراثه الديني والوطني ضمن حركة التفاعل مع الثقافات الأخرى.
إن نظرة سريعة على واقع شبابنا اليوم تكشف لنا مدى عزوف الشباب عن المشاركة في قضايا المجتمع, والابتعاد عن النشاطات السياسية والاجتماعية, وهذا ناتج عن طول أمد الاستبعاد الذي مورس ضد الشباب وعزلهم عن الحياة العامة وخاصة السياسية سواء في المدارس والجامعات أو في المنظمات الشعبية والديمقراطية المحدودة.