بقلم ألِكس كاونتس رئيس مؤسسة غرامين فاوندايشن- الولايات المتحدة الأميركية
يقول ألِكس كاونتس، رئيس مؤسسة غرامين فاوندايشن- الولايات المتحدة الأميركية، وهي المنظمة التي تؤمّن التمويل والمساعدات التقنية للمؤسسات المالية التي تقدم القروض لفقراء العالم، إنه قد تبيّن بوضوح أنه يمكن أن يكون لتمويل المشاريع الصغيرة جداً تأثير كبير على تقليص الفقر على المستويين المحلي والقومي. ويضيف، أن أحد العناصر الأساسية لإنجاح عمليات تمويل الأعمال الصغيرة هو السياسات الحكومية التنظيمية التي تدعم تنمية مؤسسات الأعمال الصغيرة.
وبتناول كاونتس، الذي كان قد حاز على منحة فولبرايت لإجراء الأبحاث في بنغلادش حيث عمل عن كثب مع الدكتور محمد يونس، مؤسس مصرف غرامين، في هذا المقال عناصر البناء الأساسية في بنية قطاع تمويل المشاريع الصغيرة جداً في الوقت الحاضر. ومن جملة الاستنتاجات التي توصل إليها كاونتس كون مشاريع الأعمال التي تديرها النساء غالباً ما تشكل أدنى مجازفة بالنسبة لمقدمي القروض من حيث تسديدها، وكون المرأة تميل أكثر إلى إنفاق المال الذي تكسبه على تعليم أطفالها، وكون التدريب النظامي الرسمي على إدارة الأعمال لا يشكل دوماً شرطاً مسبقاً لتطوير مشاريع أعمال ناجحة.
مع وجود 1.3 مليار إنسان يعيشون في حالة من الفقر المدقع في العالم، ومع الهدف المقرر دولياً لخفض مستوى الفقر الى النصف بحدود سنة 2015 (كجزء من أهداف التنمية الألفية)، ثمة حاجة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى استراتيجيات لصالح الفقراء ذات أهداف مُحدّدة ممكنة التحقيق والاستمرار.
ومن الجائز القول إن الفقر هو في نفس الوقت سبب ونتيجة العديد من المشاكل الدولية بما في ذلك الجوع في العالم، وتدهور حال البيئة، والكثافة السكانية، والأميّة، والنزاعات الأهلية، والركود الاقتصادي، والنزاعات المسلحة. وإذا كان المجتمع الدولي ينشد معالجة تلك القضايا بطريقة جدية ومتكاملة، ينبغي أن تكون المقاربات، مثل تمويل الأعمال الصغيرة جدا، في طليعة اهتمامات برنامج العمل العالمي.
وتعود جذور صناعة تمويل مشاريع الأعمال الصغيرة جداً إلى الجهود التجريبية التي بُذلت في السبعينات من القرن الماضي لتأمين الخدمات المالية، وبنوع خاص القروض، والخدمات الاستشارية غير المالية إلى الفقراء. وكان أحد أوائل الرواد في هذا المجال مشروع بنك غرامين في بنغلادش. وقد كان هذا المشروع، الذي أطلقه البروفسور محمد يونس سنة 1976 كرد على المجاعة التي تفشت سنة 1974 وخرّبت ذلك البلد المستقل حديثاً، عبارة عن محاولة مكثفة قامت على أساس مبدأ التجربة والخطأ للعثور على طريقة يمكن من خلالها دعم النشاطات الاقتصادية التي يمارسها أفقر الناس في دولة من أقل دول العالم نموا. وتم تقديم قروض صغيرة لم تكن تتعدى أحياناً 25 دولاراً لتمويل تربية الدواجن، والتجارة، وكل أنواع المشاريع الصناعية المنزلية، والخدمات. وأُتيح للذين يسدّدون تلك القروض الحصول على قروض أكبر والاستفادة من فرص جديدة للاستثمار. وتمت تجربة طرق أخرى، لكن تأمين الخدمات المالية، وعلى الأخص القروض الفردية التي يتم تسليمها عبر آلية مجموعات، كان الطريقة التي نجحت واستمرت.
وبحلول عام 1983، كانت المؤسسة قد تعلّمت ما يكفي من العبر وكانت قد ظهرت دلائل كافية تبشر بالنجاح، فتم تحويل مشروع بنك غرامين إلى مصرف مستقل مُتخصّص في تأمين الخدمات المالية للفقراء الذين لا يملكون أرضاً، وعلى الأخص النساء. وخلال المرحلة التجريبية الرائدة (1976 - 1983)، نما التواصل مع الزبائن المحتملين فازدادوا من أقل من 100 زبون الى أكثر من 45.000. وعقب استهلال المصرف أعماله، أدّت فترة من النمو المستمر إلى الوصول إلى 850.000 زبون سنة 1990، وإلى 2.4 مليون زبون سنة 2000، وإلى 3 ملايين بحلول كانون الأول / ديسمبر 2003. وهناك اليوم حوالي 200 مؤسسة أخرى تؤمن القروض الصغيرة لتسعة ملايين أسرة إضافية في بنغلادش، والعديد من هذه المؤسسات قلدّت بنك غرامين بنجاح.
ومن المدهش، أن احتمال كون امرأة فقيرة في بنغلادش عضواً في مؤسسة خاصة تؤمن لها الوصول إلى الخدمات الملائمة الممكن تحمل كلفتها يبلغ ثلاثة أضعاف احتمال كونها مستثناة من ذلك. لكن أقل من 15 بالمئة من النساء الفقيرات حول العالم محظوظات لهذه الدرجة. وهذا يدل، بالطبع، على الطاقة الكامنة لإمكانية النمو في حال جرت استثمارات مستديمة ومضاعفة على أساس كل بلد بمفرده. ففي باكستان، مثلاً، حيث نسبة اختراق السوق تبلغ أقل من واحد بالمئة، تصبح الأهداف الأولوية للسنوات القادمة واضحة كل الوضوح.
وقد دلت أبحاث مستقلة تتسم بمصداقية عالية على أنه، بحلول أواسط التسعينات من القرن الماضي،كانت حوالى 120.000 أسرة من أسر زبائن بنك غرامين تنتشل نفسها سنوياً مرتفعة عن الخط المحدد للفقر، وذلك بحلول السنة الخامسة أو السادسة على بداية مشاركتها في المشروع. وهكذا، وفي حين أن تمويل مشاريع الأعمال الصغيرة جداً لا يشكل علاجاً سريعاً أو عقاراً يشفي من جميع الأمراض، فإنه نجح في تحقيق مستويات من تقليص الفقر على النطاق المحدود بمستويات غير مألوفة، إن لم نقل لا سابق لها. وعلاوة على ذلك، تمكن بنك غرامين من تحقيق أرباح متواضعة في معظم السنين. وقد حافظ بنك غرامين، على غرار معظم مقرضي المبالغ الصغيرة جداً، على مُعّدلات تسديد للقروض تتراوح بين 95 و99 بالمئة لمعظم سنوات نشاطه، وما زال يحقق هذه المعدلات في الوقت الحاضر أيضاً. (دفعت الكوارث الطبيعية والصدمات الأخرى البنك إلى مستوى أدنى في مناسبات قليلة، كان آخرها في أواخر التسعينات من القرن الماضي).
شكلت الدروس المستقاة من المرحلة الرائدة لغرامين بنك، والتي تمّ درسها ومناقشتها من جانب العاملين في قطاع التنمية، وأكدّها بصورة مستقلة الرواد الآخرون، عناصر البناء الأساسية لقطاع تمويل المشاريع الصغيرة جدا الراهن. ويمكن اختصار تلك الدروس بايجاز على النحو التالي:
وقد كان الدرس الرئيسي الذي استُخلص من نشاط مؤسسات تمويل مشاريع الأعمال الصغيرة جداً في الثمانينات من القرن الماضي هو أنه يمكن منح امتيازات إلى مؤسسات أخرى لتقليص الفقر في ظروف معينة. وقاد هذا الاكتشاف إلى النمو المدهش لحركة مؤسسات التمويل هذه عالمياً. فحسب "حملة القمة للقروض الصغيرة" (www.microcreditsummit.org)تستفيد حالياً 67.6 مليون أسرة في العالم من هذا التمويل. وكانت بين تلك الأُسر 37.7 مليون أسرة من تلك المعتبرة ضمن "النواة الصلبة للفقر" عندما بدأت بالمشاركة في مشاريع التمويل. وهكذا لم تعد المسألة الآن مقتصرة على قصة نجاح واحدة بطلها زعيم يتمتع بقوة الشخصية (هذا إن كانت كذلك في يوم ما)، بل أصبحت جهداً دولياً متنامياً لمكافحة الفقر بطريقة منتظمة.
وقد كانت مؤسسة غرامين - الولايات المتحدة، التي أُنشئت سنة 1997، في طليعة الجهات التي قدمت مساعدات لمؤسسات تمويل مشاريع الأعمال الصغيرة جدا لكي توسع نشاطاتها وتُحسّن نوعية أدائها عن طريق تأمين التمويل اللازم، والمساعدات التقنية، والاستشارات التكنولوجية (بواسطة متطوعين في أحيان كثيرة).
وتوفر الدروس المستقاة من العقدين اللذين تليا تحول غرامين الى بنك لصانعي السياسة، الأدوات التي يحتاجونها لخلق بيئات مُمكّنة للقدرات. وستتيح هذه البيئات من جهتها، لمؤسسات التمويل بلوغ كامل ما تملكه من طاقة كامنة لتقليص الفقر كما فعلت في بنغلادش، حيث يستفيد أكثر من ثلثي الأُسر الفقيرة من واحدة من المئتي مؤسسة للتمويل الموجودة هناك. وتشمل بعض الدروس التي تم استقاؤها ما يلي:
ولتكنولوجيا المعلومات والاتصالات دور حاسم الأهمية تلعبه في نمو قطاع تقديم التمويل لمشاريع الأعمال الصغيرة جداً الذي تم تحقيقه أخيراً وفي النمو الذي سيتم تحقيقه في المستقبل. وتنطوي مكننة عمليات تمويل المشاريع الصغيرة والقيام بها آلياً بعد أن كانت عادة يدوية، على إمكانيات هائلة لزيادة فعالية الموظفين المسؤولين عن القروض، الذين يوظف بنك غرامين وحده سبعة آلاف منهم، وللحدّ من مجال ارتكابهم أخطاء أو قيامهم بعمليات تزوير. وبإمكان التكنولوجيا أيضاً أن تكون أداة تتيح للفقراء تأسيس مزيد من مشاريع الأعمال المدرة للربح، كما يظهر بوضوح مثال شركة غرامين فون. وأخيراً، فإن توحيد اتفاقات معايير إرسال المعلومات سوف يوضح بشكل أكبر أن الفقراء والمؤسسات التي تخدمهم يشكلون مجازفات لا تتسم بخطر كبير في ما يتعلق بالقروض. وبالمقابل، سوف تقوم أسواق رؤوس الأموال الخاصة بزيادة استثماراتها في تمويل المشاريع الصغيرة جداً على أسس تجارية، وعلى الأخص في بلدان مثل الهند حيث توجد حوافز قانونية تنظيمية للاستثمار في برامج مكافحة الفقر. لقد تبين بوضوح الآن أنه يمكن أن يكون لتمويل المشاريع الصغيرة جداً تأثير كبير على الفقر، على المستويين المحلي والقومي، شريطة أن يعتبره صانعو السياسة وغيرهم، أي بالدرجة الأولى المسؤولون الحكوميون (وعلى الأخص القيّمون على تنظيم القطاع المصرفي والجهات المانحة الحكومية والخاصة)، أولوية. وإن هم اختاروا القيام بذلك بشكل يتساوق مع أفضل الممارسات، فإنهم يقدمون بذلك رأس المال التأسيسي لصناعة قادرة على مواصلة العمل وتحقيق الاستمرارية دون مساعدات مالية لا نهاية لها، ويمكنها أن تعمل بشكل متعاون مع الجهود الأخرى الهادفة إلى تقليص الفقر. وقد لا يكون هناك استثمار أفضل لتحقيق "أهداف التنمية الألفية" ولتحقيق درجة من الأمن الحقيقي، بأوسع ما تحمله كلمة الأمن من معنى، لكل الناس في عصرنا هذا.