د. هادي حسن عليوي- الصباح
تشكل ازمة السكن في العراق مشكلة المشاكل،و التصدي لحلها يعني حل العديد من المشاكل الناتجة عنها، وينتظر العراقيون من حكومتهم الدستورية التصدي لهذه الازمة الخانقة والافادة من تجارب الدول والتكنولوجيا المتقدمة وتطويعها مع الواقع العراقي، وايجاد صيغ علمية واستثنائية وسريعة في بناء المجمعات السكنية في انحاء العراق، وعدم اتباع الصيغ التقليدية المتخلفة، لان ذلك لن يؤدي، بأي حال من الاحوال، الى حل الازمة، بل الى تفاقمها مع استمرار النمو السكاني، وانشطار العائلة الواحدة الى اكثر من عائلة.
لقد اخذت ازمة السكن تبرز بشكل واضح في العهد الملكي، ففي بداية العهد الملكي لم تكن بغداد سوى مساحة ضيقة لا تتعدى بضع كيلومترات تحيط بها سدة ناظم باشا لدرء الخطر عنها، لكن ما لبثت ان اخذت تتوسع، حيث اتصلت بها ضاحيتا الاعظمية والكاظمية من الشمال، ونحو الجنوب حيث اتصلت بالكرادة الشرقية، ونحو الغرب باتجاه المنصور، وكان لانشاء مشروع الثرثار عام 1956 ومنع خطر الفيضان عن مدينة بغداد دور في اتساع المدينة، حيث تضاعف حجمها ثمان مرات، وازاء ذلك بنيت مناطق جديدة محاذية لبغداد، منها بغداد الجديدة، والكمالية في الرصافة ومثلها في الكرخ.
يبدو ان الهجرة الواسعة نحو بغداد من شتى المناطق وخاصة الريف الجنوبي ادت الى توسع ازمة السكن في بغداد بشكل جلي، ولم تظهر في المدن العراقية الاخرى، في البداية، على الرغم من النمو السكاني واول خطوات حل ازمة السكن،وتوفير سكن لائق لسكان الصرائفي، الذين يزداد عددهم باستمرار الهجرة الى بغداد عمدت حكومة عبد الكريم قاسم 1958-1963 لحل هذه المشكلة بانشاء مدن الثورة في الرصافة والحرية والشعلة في الكرخ، الى سكان الصرائف وفقراء بغداد كما عمدت هذه الحكومة باقامة مدن ومجمعات في كل انحاء العراق للعسكريين سواء الضباط ام المراتب، مثل مدينتي الضباط في زيونة واليرموك.ومدينة لنواب الضباط في منطقة الاسكان وغيرها..كما قامت هذه الحكومة بانشاء احياء حسب المهنة، فانشيء حي المعلمين، كذلك المهندسين،و المحامين، والمطابع،والسكك وتم توزيع الاراضي لموظفي الدولة وتأمين المصرف العقاري لتقديم القروض لانشاء المساكن بتسهيلات كبيرة.
ومنذ عام 1963 حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي اهملت مشاريع الاسكان بسبب تراجع الحكومات المتعاقبة عن البناء الاسكاني، كما لم يول القطاع الخاص اهتماماً ببناء مشاريع اسكانية وبسبب الظروف الاقتصادية الصعبة للمواطن، كانت عملية بناء المساكن تجري ببطء، على الرغم من استمرار الجمعيات التعاونية للمساكن في توزيع الاراضي السكنية للعمال و الموظفين فقد بقيت معظم تلك الاراضي مهملة، لعدم توفر ابسط مستلزمات الخدمات الاساسية ( ماء،كهرباء، شوارع مبلطة، وسائل نقل) من جهة، وعدم اتمكن الموظف من بناء دار سكن له..
وهكذا عادت ازمة السكن تتفاقم من جديد، وظهرت الصرايف والاكواخ في محيط المدن، بل وفي داخلها، مع ازدياد الهجرة من الريف الى المدن، من جهة والنمو السكاني من جهة اخرى، والانشطار المستمر في العوائل بسبب الزواج و الولادات الجديدة، ولم تتوقف هذه الازمة عند مدينة بغداد، بل عمت كل مدن العراق، ما ادى بالتالي ان تسكن في الدار الواحدة عدة عوائل كل عائلة في غرفة واحدة، ولايمكن حصر المشاكل جراء هذه الحالات.
ومنذ النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، وبسبب الزيادة الكبيرة في عائدات النفط بدأت الحكومة بأقامة المشاريع السكنية، بتشييد العمارات السكنية في العديد من المدن العراقية، ولكن تلك المشاريع كانت قليلة جداً، ولم تسد حسب الاحصائيات 1% من حاجة العوائل التي لا تملك سكناً .
صحيح ان الحكومة وزعت على مدى السنوات الماضية آلاف القطع السكنية في انحاء العراق ، لكن يبدوا ان ذلك التوزيع لم يحل مشكلة السكن فقد وزعت تلك الاراضي في غالبيتها العظمى على العسكريين والغالبية العظمى من هؤلاء يملكون الدور السكنية التي وزعت عليهم في فترات سابقة وحتى المواطنين الذين حصلوا على اراض سكنية فقد وزعت عليهم بموجب قيود مشددة وفق محل تسجيلهم او تسجيل ابائهم في احصاء 1957 وبالتالي لم يسهم هذا التوزيع بحل ازمة السكن بل ادى الى التجارة والمضاربة في الاراضي والعقارات في مدينة بغداد بشكل خاص ، وارتفعت اسعارها لدرجة لم يستطع المواطن الذي لا يمتلك داراً او شقة شراء قطعة ارض ، وحتى جزء من قطعة ارض في بغداد وحتى الذين امتلكوا قطعة ارض او جزء منها لم يستطيعوا بناءها بسبب ظروف الحرب والحصار الاقتصادي.
وهكذا عاش العراق ازمة خانقة دون حل، ما انعكس في زيادة الايجارات، وقدرت دراسة اكاديمية اجريت عام1995 ان العوائل التي لا تملك سكنا خاصا بها اكثر من 63% من سكان العراق.
وبعد سقوط النظام في نيسان عام 2003 وتحسن مستوى المعيشة للموظفين ودخل المواطنين فأن مئات الالاف من العوائل انشطرت وسكنت دوراًاوشققاً اضافة الى عودة الالاف من العوائل المهجرة او المهاجرة الى العراق فتضاعفت ازمة السكن وارتفعت الايجارات السكنية بين خمسة الى ثمانية اضعاف عما كانت عليه قبل سقوط النظام السابق وهي في تصاعد مستمر كما ارتفعت اسعار الاراضي والدور السكنية بالنسبة نفسها او اكثر في اغلب الاحيان، كما ان مواد البناء والانشاء والمعدات الاخرى المتعلقة بالبناء واجرة العمل ارتفعت بذات النسبة او اكثر ، اضافة الى توقف البناء الاسكاني من قبل الدولة، والعراق على ابواب عودة اكثر من مليون عائلة عراقية من الخارج مع ما تحسن الوضع الامني وبالتالي زيادة كبيرة قد تصل الى مضاعفة اسعار الايجار والدور والاراضي عن اسعارها الحالية المرتفعة جدا.
تقدير المشكلة
مع ارتفاع نسبة الزيادة السكانية وتسارع نمو المدن وهيمنة بغداد ديموغرافيا واقتصادياً واداريا ، بلغت الهجرة الى بغداد مداها كما ونوعا وتقدر نسبة النمو في عدد السكان اكثر من 3% سنويا اي ان عدد السكان سيتضاعف بحدود 20 سنة ، فاذا كانت تقديرات سكان العراق اكثر من 26 مليون نسمة عام 2000 فأن سكان العراق سيبلغ عام 2025 اكثر من 52 مليون نسمة.
- الرصيد المطلوب تشييده
في دراسة" دروب سياسة الاسكان " يقدم د. عبد السلام فرمان ارقاما عن الحاجة الفعلية من المساكن حيث يشير الى ان الرصيد الحالي يتميز بثلاث مجموعات هي :اولا ما هو صالح للسكن حاليا ينقص منه ما سوف يندثر خلال العشرين سنة المقبلة او ما تجري ازالته لاسباب التجديد الحضري وغيره من الاسباب والمجموعة الثانية هي الدور غير الصالحة للسكن وتشمل مساكن القصب والخيم والصرايف والاكواخ اما المجموعة الثالثة فهي نصف مساكن من الطين واللبن والتي افترض ان يكون من الممكن تحسينها صحيا وانشائيا كحل مؤقت.
وقد تم تقدير عدد غير الصالح من المساكن ليتراوح بين 20-30% من رصيد سنة 1997 وهي نسبة منخفضة وبالتالي فالرصيد المطلوب تشييده خلال العشرين سنة المقبلة اكثر من ستة ملايين وسبعمائه مسكن وهكذا تظهر هذه النسب والارقام فداحة الازمة وضرورة معالجتها باساليب وخطط متعددة.
المعالجات الحكومية الحالية
جاءت حلول وزارة الاعمار والاسكان عرجاء وحتى في حالة تنفيذها لا تحل حتى 1% من هذه المشكلة في حين ان المشكلة تتوسع سنويا باكثر من هذه النسبة..
لقد اعلنت عن احالة العديد من المجمعات السكنية الى شركات عراقية لغرض تنفيذها ويبلغ عددها (19) مجمعا سكنيا تضم اقل من ثمانية الاف وحدة سكنية مقارنة بحاجة العراق لمليوني وحدة سكنية سيتم بناؤها خلال خمس سنوات حسب تصريحات المسؤولين في هذه الوزارة.
ان الحلول المطلوبة من الحكومة المقبلة لحل ازمة السكن تتطلب جهودا استثنائية واجراءات خارج الصيغ التقليدية تتوزع بين توزيع اراض سكنية للمستحقين فعلا وتوفير كميات وفيرة من مواد البناء والانشاء الاسكاني باسعار مدعومة وتشجيع المواطنين للبناء الاسكاني العمودي وتجزئة قطع الاراضي الى قطع صغيرة بين 150 -300 متر وتشجيع القطاع الخاص للاستثمار في البناء الاسكاني والتشجيع على اقامة المشاريع الاسكانية المقررة حاليا بفترة زمنية لا تتجاوز السنة، خاصة بطريقة البناء الجاهز التي لا يتجاوز بناء اي مجمع سكني اكثــر من ثلاثة شهور واستخدام اية صيغ متقدمة يقدمها الخبراء والمهندسون في مجال البناء السكني العمودي والافقي او في مواد البناء المستخدمة.كما يتطلب الالتفات الى اوضاع الريف ومشاكله العمل بشكل جاد وسريع لاقامة قرى عصرية وتحسين الزراعة ومكننتها وتوفير المستلزمــات الزراعية للحد من الهجرة من الريف الى المدينة ويقينا ان الحكومة المنتخـبة لا بد ان تضع مسألة حل ازمة السكن في اولويات مهامها الوطنية الكبرى والتي تعــادل في اهميتها الامن والاستقــرار في البلاد.