This site uses cookies for analytics and personalized content. By continuing to browse this site, you agree to this use.
We have updated our Privacy Notice, click here for more information Acknowledged

البحث العلمي في العراق إلى أين ؟
09/02/2009

 

 

أ.د عدنان صالح محمد الجنابي- الصباح
لا شك ان الجميع يدرك العلاقة الجدلية ما بين التعليم العالي والبحث العلمي وان الاثنين يمثلان وجهين لنفس العملة الى حد ان التعليم العالي متداخل ومتلازم مع البحث العلمي ولا يمكن ان يكون هنالك تعليم عال ما لم يرافقه نشاط بحثي والا كان التعليم العالي عبارة عن منظومة للتلقين وضخ المعلومات الجاهزة من غير وجود  مبررات قوية للاستفهام والابداع والابتكار وهذا لعمري يمثل هزيمة للتعليم العالي ويفرغه من محتواه.

 شهد القرن العشرين تقدماً علمياً هائلاً لم يشهد له تاريخ البشرية المسجل مثيلاً اذ بدأ الانسان يرى ما لم يكن له القدرة على رؤيته سابقاً بالعين المجردة او بالمجاهر البسيطة التي اكتشفها كما انه توصل الى تقنيات كثيرة مكنته من فهم افضل لمختلف جوانب الحياة والثروات الكثيرة المتواجدة فوق وتحت سطح الارض وارتياد الفضاء وما نتج عنه من تطور تقنيات الاتصالات والمعلوماتية وسبر اغوار المكنون الوراثي للكائنات وحل الغاز الخريطة الوراثية للانسان والتعرف على الاسباب الحقيقية للكثير من الامراض والتطور الهائل في العلوم الهندسية والطبيعية المختلفة. ان هذا كله تحقق والمزيد سيتحقق بوتائر اسرع نتيجة للانفاق الهائل على البحث العلمي وتشجيع الباحثين في الدول المتقدمة.
منظومة البحث العلمي في العراق
شهد النصف الاول من القرن الماضي بداية وضع اللبنات الاولى للدراسات الجامعية وكان الانشغال الاساسي لها هو انشاء المزيد من الكليات وصولاً الى مرحلة تكوين الجامعات. وكان التركيز الاساسي خلال الحقبة على التدريس لتخريج الكوادر المؤهلة لرفد مؤسسات الدولة بالاختصاصات التي كانت بأمس الحاجة لها:
كالاطباء/المهندسين والقانونيين والمحاسبين وغيرهم. ان التفكير الجدي والمنهجي بالبحث العلمي ليس على نطاق التعليم العالي فحسب وانما على صعيد الدولة وقد بدأ يتبلور بشكل واضح منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي.
ان من المفاهيم التي بدأ الانتباه اليها والمعتمدة عالمياً هو مفهوم البحوث الاساسية Basic Research والبحوث التطبيقية Applied Research . والكثير من البحوث التي تجري في الجامعات هي من النوع الاول خاصة في رسائل واطاريح الدراسات العليا في الكليات العلمية / ان الهدف من هذه البحوث كما هو معروف الوصول الى نتائج جديدة في شتى حقول المعرفة من دون توخي التطبيق العلمي المباشر ويمكن عند التعمق بها التوصل الى بعض الجوانب التطبيقية. اما النوع الثاني من البحوث فهي اما تطوير لنتائج البحوث الاساسية لايجاد السبل لوضعها حيز التطبيق او لتحديد اساليب او طرق جديدة لتحقيق هدف علمي معين ومحدد وتجري مثل هذه البحوث ضمن مراكز ومؤسسات البحث العلمي.
مراحل منظومة البحث العلمي في العراق.
مرت منظومة البحث العلمي في العراق بالمراحل الآتية:
1ـ الفترة الممتدة من الستينيات وحتى اواخر الثمانينيات
تطور وتجذر مفهوم البحث العلمي في الجامعات العراقية القليلة عدداً، ظهور بدايات البحث العلمي في منشآت ومراكز متخصصة بالبحث العلمي. وفي هذا الاطار انشئت مؤسسة البحث العلمي ضمت العديد من الانشطة البحثية ارتبطت اولاً بجامعة بغداد ثم ارتبطت بمجلس الوزراء ثم بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي بعد تأسيسها العام 1970 واصبحت احدى مؤسساتها حتى انشاء مجلس البحث العلمي العام 1980 كذلك انشاء مركز بحوث الطاقة الذرية بالاضافة الى مراكز بحوث صغيرة ايضاً (مراكز بحوث زراعية وطبية واغلبها مرتبطة اما بالكليات او لبعض الوزارات).
ان ما كان يميز هذه المراكز جميعاً هو ضعف امكاناتها وكانت اقرب ما تكون منافي للباحثين بدلاً من مراكز للبحث العلمي حيث كانت تضم ـ على الاغلب ـ الباحثين الذين ليس لديهم مجال للعمل في الجامعات اما بسبب ان التعيينات في الجامعات خاصة داخل بغداد غير متاح او بسبب ان الكثير منهم من خريجي جامعات اوروبا الشرقية الذين لا يحسنون اللغة السائدة في التدريس في تلك الفترة ـ الانكليزية ـ او بسبب شعور البعض بأن مستوى هؤلاء الباحثين ليسوا بمستوى خريجي الجامعات الغربية ولا نعرف على وجه الدقة فيما اذا كانت هنالك دوافع سياسية ايضاً وراء هذا الشعور (لان الكثير من هؤلاء الباحثين اثبتوا جدارة وقدرة علمية عالية اياً كانت المبررات فان هؤلاء الباحثين كانوا يتقاضون رواتب اقل من اعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات وان فرص مساهمتهم في حضور المؤتمرات العلمية خارج العراق او النشر العلمي قليلة وغيرها من انواع التمييز الذي نعتقد انه غير مبرر مطلقاً.
لقد شهدت فترة نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات تطوراً كبيراً في النظرة الى مؤسسات البحث العلمي خارج الجامعات. في هذا الاطار يعتبر انشاء مجلس البحث العلمي العام 1980. خطوة كبيرة للامام في طريق وضع لبنات سليمة لمؤسسات البحث العلمي. لقد تم تزويد المجلس المركز بامكانيات مختبرية جيدة وخضع لنظام خدمة يتيح تحسين الوضع المادي للباحثين بالاضافة الى نظام اداري مبسط في مواضع مثل الايفادات وتنظيم المؤتمرات والصلاحيات المالية وغيرها مما بشر بتطور هذه المؤسسة البحثية التي تعرضت في العام 1989 الى الحل والالغاء بجرة قلم من دون معرفة الاسباب الحقيقية الموجبة لذلك. كما شهدت هذه الفترة تطوراً كبيراً في نشاط الطاقة الذرية العراقية لكي تصبح منظمة متطورة يتم فيها اجراء بحوث نوعية في شتى الميادين السلمية وخضع باحثوها لنظام خدمة جيد وزودت بامكانيات مادية متطورة.
2ـ الفترة الممتدة من نهاية الثمانينيات وحتى العام 2003               
لقد شهدت هذه الفترة بروز هيئة التصنيع العسكري بامكانيات وصلاحيات كبيرة حيث تبنت المشاريع المتكاملة من التخطيط والبحث والتطوير والتصنيع والدخول الى الميادين التكنولوجية مباشرة وبامكانيات كبيرة وعلى الرغم من وجود دوافع سياسية لانشاء هذه الهيئة وتوجهاتها الا انها كان من الممكن ان تكون لو ابعدت عن الجانب السياسي والدعائي ـ ان تؤسس لمنظومة بحث علمي سلمي يسهم في نهضة العراق السليمة. ولقد تعرضت الكثير من مختبرات البحث العلمي الى التدمير نتيجة قيام فرق التفتيش التابعة للامم المتحدة بتفجير عدد كبير منها.
3ـ الفترة من بعد نيسان 2003 
لا يخفى على الجميع ما اصاب البنى التحتية للعراق من دمار كبير خاصة عند حرب الكويت وشمل ذلك المؤسسات البحثية. ولا نبالغ كثيراً اذا قلنا ان مختبرات الجامعات والمراكز البحثية قد شهدت تدهوراً ودماراً كبيراً اوحالها الى الشلل الكامل.ولقد تفاقم ذلك خلال فترة الحصار الاقتصادي الذي اعقب تلك الحرب والذي امتد نحو 13 عاماً، واتت حوادث السلب والنهب بعد حرب 2003 على ما تبقى من هياكل لاجهزة اكل عليها الزمن وشرب حيث اوقعت بها يد الجريمة لتجعل منها اثراً بعد عين وسلمت الى حد ما عدداً قليلاً جداً من المجمعات العلمية ربما احدها مجمع الجادرية حيث يقام هذا المؤتمر العتيد.
ان من التطورات المهمة خلال هذه الفترة استحداث وزارة العلوم التكنولوجيا وكذلك وزارة البيئة. كما ان تخصيصات لاعمار الجامعات ومراكزها البحثية قد رصدت وبدأت عند العام 2004 خطوات متواضعة في هذا الاطار تطورت مع الايام لتصل الى معدلات افضل العام 2008. ان من المشاكل الازلية التي يعاني منها البحث العلمي في دول العالم الثالث ومنها العراق ضعف الانفاق العام على البحث العلمي فعلى الرغم ان نسبة الانفاق هذه لفترة من العام 1990ـ1995 بلغت في الدول  العربية بحدود 0.2% مقابل 3.5% في اليابان والولايات المتحدة فان مجموع ما صرفه العرب على شراء الاسلحة في عقد التسعينيات من القرن الماضي بلغ اكثر من 500 مليار دولار دون ان يكون لذلك اي اثر في ضمان الامن القومي العربي.
ربما كان من المفيد هنا الاشارة الى مردودات البحث العلمي ممكن ان تكون لو تمت ادارتها بشكل حكيم ان تحقق مردودات مالية هائلة، وتشير ارقام العام 2008 ان صادرات بلد مثل البرازيل من الموارد الزراعية قد بلغ 82 مليار دولار.
مقترحات لتطوير حركة البحث العلمي في العراق...
1. ان التخطيط هو احد مقومات النهضة في اي مجال ولاهمية البحث العلمي نرى ان توضع خطة خمسية للبحث العلمي (خمس سنوات) في العراق تقوم بها الجهات العلمية المعنية بما في ذلك ممثلين عن الجامعات وبعض الوزارات المهمة ذات العلاقة: الصناعة، الصحة، الزراعة، البيئة، النفط، الاسكان.
2. لقد تم التطرق في هذه الدراسة الى ان البيروقراطية وكثرة الحلقات الادارية لاتنسجم باي حال من الاحوال مع ادارة وتنظيم العمل البحثي لذا فان استحداث وزارة او وزارات متخصصة بالبحث العلمي تعمل بالسياقات القديمة المعمول بها في دوائر الدولة سابقاً ولاحقاً سوف لن يحالفها الحظ في تحقيق النهضة العلمية المرجوة. ان لنا في العراق تجربة ثرة من خلال ما حققته تجربة مجلس البحث العلمي في الثمانينيات والتي تعتبر مثالاً واضحاً على ان توفير الصلاحيات المالية والادارية وتقليص الحلقات الروتينية قد وفرا بيئة ادارية ومالية حققت الكثير في شتى مجالات البحث والنشر العلمي. لذا فاننا ندعو الى استحداث هيئة وطنية للبحوث تضم جميع وحدات البحث العلمي في وزارات الدولة بما فيها التعليم العالي والبحث العلمي (عدا مراكز البحوث في الجامعات) يرأسها موظف بمرتبة علمية عالية من اصحاب الخبرة وله باع في البحث العلمي وبدرجة وزير ـ خارج المحاصصة بشتى انواعها ـ يرتبط برئيس الوزراء وتخضع الهيئة او المجلس المقترح لقانون خاص يراعي توفير الصلاحيات المالية والادارية اللازمة ونظام خدمة ورواتب مجزية.

.3 توفير التمويل المالي اللازم للبحث العلمي في العراق واعتبار ذلك من اولويات عمل الدولة من غير تخصيص مبلغ سنوي لايقل عن 1% من الميزانية السنوية للدولة.
4. وضع خطة استثمارية خمسية لتطوير الجامعات وتخصيص المبالغ اللازمة لها وتخول الجامعات الصلاحيات المالية والادارية للتصرف وتحت مظلة تعليمات مالية ورقابية حديثة بالشكل الذي لايعيق عملها كما يجري الان بسبب عدم عصرنة التعليمات المالية وصلاحيات الصرف وكذلك التعليمات الرقابية.