لاورنس شورتر
ترجمة نادية المختار- الصباح
عــن صحيفة تايمز
كثيرا ما نسمع ونقرأعبارة "إبتسم.. تبتسم لك الدنيا" فما الذي يجعل أشخاصا معينين مبتسمين ومتفائلين على الدوام بدرجة تضعهم في المقام الأول رغم كل شيء؟ ولكي أسرد لكم مادفعني لهذا التساؤل سأروي لكم تجربة شخصية قادتني لفك أغوار سر التفاؤل والإبتسام.
إعتدت الدخول الى مقهى خاص يقدم المشروبات الساخنة والعصائر والسكاكر وبعض المأكولات الخفيفة، وكان هنالك نادل يعمل في هذا المقهى، وكنت أرقب تحركاته التي تمتاز بالخفة والرشاقة والحيوية حينما يقدم طلبات الزبائن، وكان يعمل بجد واضح رغم أنه كان يدندن بأغاني يرددها مع نفسه بصوت يسمعه الجالسون ويطلق النكات والمزح الطريفة التي تدخل البهجة في قلوب الجميع. وقد كان في أحيان كثيرة يتغاضى عني ويدعني أغادر المقهى دون أن أدفع حساب الشاي، وكنت أشعر حينها كما لو كنت فتى غراَ رغم أني تجاوزت الـ38 عاما. وقد بدأ باقي الزبائن بالتعامل معه وفق مزاجه الذي يتسم غالبا بالبهجة والفرح، فقد كان يضفي الفرح والسرورعلى زملائه في العمل الذي ينعكس بدوره على الجو الذي يشيعونه في نفوس الزبائن الجالسين حيث يجعلونهم يتحدثون ويضحكون ويرغبون بالجلوس لوقت أطول في المقهى. كانت إبتسامة ومرح هذا النادل سمة ملازمة لمكان المقهى، وذات يوم لم يحضر النادل"جورج" فأصبح المقهى مختلفا تماما وأقل نشاطا ووتيرة العمل فيه تسير ببطء شديد. وهنا تساءل الجميع بلهفة، هل سيأتي جورج؟ ألم يتصل جورج؟ أين جورج؟ وبدأت بالقلق حيال جورج لأنه لم يعتد التغيب عن مكان عمله، واستعرضت مع نفسي إسلوبه الإيجابي في إدارة العمل، متمنيا لو أني أمتلك نفس الحيوية والطاقة التي يمتلكها حينما أقدم على أداء أعمالي، وبقيت أتساءل من أين له هذه السمة وماهي وسيلته التي تدخل البهجة بإستمرار لقلوب الناس؟ وحينما رجعت الى المنزل وآويت الى فراشي بقيت أفكر مع نفسي وأتساءل هل أن جورج لايحتسي الخمر أو أنه لايعير أهمية للأخبار اليومية عبر التلفاز والأذاعة وهل أنه ينأى بنفسه عن الاندماج في المجتمع الذي يحيا فيه بحيث يبقى مبتسما ونشيطا طوال النهار؟ وهل أنه لايهتم بما يدور في محيطه ليبقى مندمجا في عمله فقط ؟ أخيرا قررت أن أجري لقاء مع جورج، ومئات من أمثاله وعلى شاكلته، وقررت أن أؤلف كتابا طالما حلمت بتأليفه يكون حلا لمئات المشاكل التي تعترض الناس بدلا من الجلوس الى طاولة العمل لساعات طويلة دون أن أقدم شيئا نافعا لغيري. وبالفعل تخليت عن وظيفتي وخلال عامين سافرت عبر أربع قارات وتحدثت الى عشرات الأشخاص من المشاهير وعلماء النفس والمرشدين الروحيين. حاولت استسقاء الحكمة من واعظين وتربويين ومثقفين وعرفت نهج حياتهم التي يسيرون عليها وفهمت نمط سلوكياتهم في التعامل مع من حولهم وعايشت البعض منهم في جولاتي الميدانية التي أضافت الى نفسي ترسيخ حقائق بسيطة تتجلى في صحة نهجها من قبل هؤلاء. كنت أرقب حتى الكلمات التي يستخدمونها في التعبيرعن الأشياء التي يريدون البوح بها أوالتعريف بها، وكنت أمزج بين مايصدره فكرهم مع ماتنطقه أفواهههم وأطابق ردود الأفعال الناجمة عن ذلك نحو من حولهم. وخلال رحلتي الطويلة في القارات الأربع، أيقنت أن كل من قابلتهم كان لهم دور في تفسير سر تفاؤلهم وماتعنيه تلك المفردة بالنسبة لهم، وكأنهم (تلمسوا طريقهم) بين تلك الكلمات المتفائلة التي كانوا يستخدمونها محاولين القضاء على كل كلمات الغضب والتعابيرالفظة التي تثقل دماغ الفرد وتتعب أعصابه والاستعانة بدلا عنها بكلمات رقيقة وابتسامة ناعمة تنم عن روح قوية مفعمة بالحب والخير وتبث الود والدفء بين حناياهم وبين خوافق الجالسين دون أن يخسروا شيئا، بل إنهم كانوا يكسبون ود الآخرين بأقصى سرعة كما لو أنهم حمائم سلام ترفرف وسط سماء تتوق للبهجة والفرح. وقد أخبرتني ذات مرة إحدى السيدات ممن أجريت لقاء معها حول سر تفاؤلها ودوام إبتسامتها، لتجيبني بعفوية سريعة بأن تعلم البشاشة في الوجه وغرس الإبتسامة في النفس قبل الوجه ليس بالأمر الصعب، بينما يمكن أن يكون تعلم لعب الشطرنج أمرا غير بسيط فلا يمكن لأي شخص أن يتقن لعبة الشطرنج في ليلة واحدة، كما لايمكن تعلم إمتطاء صهوة الجواد من مرة واحدة بل يستلزم الأمر تدريبا كبيرا ومستمرا، ولكن تمرين اللسان والوجه على الكلمات الطيبة والتعابير السمحة تكاد تكون سهلة للغاية شرط أن تنبع من "ينبوع" الروح دون تكلفة زائفة. ومنذ سماعي لتعليق هذه السيدة، أدركت بأن كل شخص يواجه تحديا مع نفسه بإقرار وجوده من عدمه. كما تعلمت شيئا آخر من عالم النفس الأميركي مارتن سليجمان، بأن التفكير الإيجابي يمتلك نزعة فذة تحددها قدرتنا العقلية على إيجاد السعادة والبحث عنها خلال أسهل الممكنات حولنا لنبثها على شكل بهجة وبشاشة لمن نعمل معهم أو نتعايش بينهم أو لمن يرافقوننا في حياتنا حيثما نحل ونرتحل. ولاننسى أن هنالك أشخاصاً ولدوا والبشاشة والتفاؤل معهم وهناك من هم على العكس منهم، فالجو المحيط بنا أسريا يكون بمثابة الغرسة الأولى "لشجرة" الروح التي نتمتع بها. أما المرشد الروحي الأميركي بايرون كيت فقد قال لي "لايجب عليك تدوين كل شئ رديء أو جيد، لأن هذا يجعلك تشعر بالمعاناة ويبعدك عن التفاؤل، ويجدر بك تقبل كل شئ والعيش معه دون تذمر بل عليك اللجوء الى الحل وليس للتململ والضجر". وقد أخبرني ريتشارد برانسون الذي يعيش في جزر الكاريبي، بأن سر تفاؤله يعود الى كونه يستمتع بكل ثانية من حياته ولايدع للتشاؤم أي مسلك نحوه بتاتا، فالسعادة مهارة تستلزم وقتا للتطوير، كما أنها نهج عقلي ونفسي. وهاهي آشلي جود، التي تمتلك مزرعة للماشية في تينيسي، حيث تقول "لدي دواخل حسنة وأخرى سيئة كلها تكمن في شخصيتي، ولكني أعمل على تنقية فكري إيجابيا لكي أنسى الجانب السلبي من دواخلي تلك، وأحاول جهدي التأقلم مع التقدم الحاصل في العالم تقنيا لكي أبقى على تواصل مع العالم من حولي حتى لايصيبني الجهل وعدم الدراية بما يحدث في الكرة الأرضية، فالعلم واحد من وسائل السعادة والتفاؤل بين الناس ولاشك أن تعلم التقنيات الحديثة يؤهل المرء لمدخل السعادة الواسع". ومن خلال لقاءاتي تلك مع مختلف الناس والفئات الطبقية والمجتمعية توصلت الى أن مفهوم التفاؤل والسعادة لاينحصر بمعرفة أخبار الساعة ولا بمعرفة المستقبل، وإنما يكمن في داخل النفس البشرية ومدى تفاعلها مع كل الأحداث بالشكل السليم. وتعود بي الذاكرة الى النادل "جورج" الذي كان الدافع لمسيرتي وبحثي لمفهوم السعادة والتفاؤل، فقد أخبرني في اللقاء الذي أجريته معه بعد عودته الى المقهى، بأن سر السعادة والتفاؤل المحيط به يعود الى شعوره بالبهجة منذ اللحظة التي يحمل فيها أكواب الشاي والقهوة أو العصائر الى الزبائن كونه يدرك مع نفسه أولا بأن البشاشة تفتح شهية الشخص وتجعل الأمور الصعبة عنده أكثر هوانا فيستبشر الزبون خيرا ويبدأ يومه بالفرح. كما أنه يقول بأن مجرد جلوس الزبون في المقهى أو تردده الدائم اليها يعني حاجته الماسة للراحة والغبطة والفرح ليبتعد عن مشاغل الحياة وهمومها ويقضي وقتا طيبا في مكان الراحة هذا. واليوم حينما أفكر بالسعادة والتفاؤل أدرك بعد تنقل دام 3 سنوات بين مختلف بقاع العالم، بأن منظورالتفاؤل هو من يجلب السعادة والبهجة الى قلب المرء وبالتالي يعود بالنفع على باقي الأشخاص