لماذا بدأ الطفل الوديع أمجد يسرق حاجيات المنزل ؟
بغداد - باسم عطية
تصوير - نهاد العزاوي
لم يكن أمجد سوى طفل وديع في الأول المتوسط ، ولم يكن يعرف سوى بعض الألعاب العادية والبسيطة للتسلية. كان أمجد، والحديث هذا لوالده، طالبا مجتهدا يواظب على الدوام ويؤدي واجباته المدرسية أولا بأول. لا يعرف العادات السيئة كالكذب والسرقة، ولا يعرف كذلك الكلمات المبتذلة والنابية . كان مثلا يحتذى به في الصدق والأمانة ، وكان المدرسون يعدونه مثالا للتلميذ النجيب والمثابر. ويواصل والد أمجد حديثه بحسرة : فجأة تغير كل شيء ، انقلب كل شيء رأسا على عقب . بدأت درجاته بالتراجع. لم نعد نراه يعير أهمية لإنجاز واجباته المدرسية . ظهر العديد من الأصدقاء الجدد في حياته ، ولم يكن هؤلاء زملاء له في المدرسة ، وإنما من المتسربين من المدارس أصلا . بعدها بدأ يمضي ساعات من الليل قبل العودة إلى البيت ، وشيئا فشيئا بدأت تتغير أمنياته .
بدأ يتمنى أن يكون ملاكما ، وأن تكون لديه دراجة بخارية عالية السرعة ، وبدأ يكثر من الحديث عن الأسلحة . كثرت بعد ذلك حججه وأعذاره لنيل المزيد من النقود بعد أن كان مصروفه اليومي يسد حاجته . واكتشف أخوته الكبار إن أخاهم الصغير بات واحدا من المدمنين على لعب البليارد. اكتشفوا ذلك بعد فوات الأوان، وبعد أن أصبح شخصا لا يمت لأمجد السابق بأية صلة. فقد عرفوا أن والدته كانت تعطيه المزيد من النقود وهي لا تعلم إنه يدفعها أجورا للعب البليارد. وإن الكثير من الحاجيات والأشياء الصغيرة التي فقدت من المنزل، كان أمجد قد باعها خلسة للحصول على نقود تروي ولعه في اللعب. لقد تحول ولدنا إلى لص صغير بسبب هذه اللعبة، وباتت مشاكله معنا ومع أقرانه تزداد وهو الذي لم يتشاجر ولا مرة واحدة في حياته. حتى مدير مدرسته استدعاني لأول مرة ليسألني عن سبب تراجع درجات أمجد وكثرة غياباته، وهذا ما لم نكن نعلم به سابقا. لقد كان ذلك كارثة بالنسبة لنا، وصدمة لم نفق منها حتى الآن!!.
- نقطة البداية
توب سادة، سنتر مشجر، فاول، كيوب، جوك، كبسولة، مثلث، جيب، أميركي، سحب، تسلسل، صول، عادي، كيم، أحترق، تكسي، كشن، دبل سنتر، مرمر، دبل توب، رون، فردي، زوجي، مكالب..........) هذه هي الكلمات التي باتت أكثر تداولا في أحاديث أغلب المراهقين وبعض الشباب بعد أن غزا البليارد مراكز عقولهم ، واستحوذ على مجمل اهتماماتهم . يقول محسن علي ( مراهق ) وعيناه تتابع الكرات المتحركة على سطح البليارد : أجد هنا متعتي الوحيدة ،لا أعلم أين أذهب بعد عودتي من المدرسة . أنا أحتاج لبعض التسلية والمتعة ، ألعب مرات قليلة ولكنني متفرج دائم لهذه اللعبة . لذلك أبقى هنا ساعات وساعات .... وتضيع الكلمات الأخيرة لمحسن بين ضجيج اللاعبين والمتفرجين أمثاله .
منذ زمن ولعبة البليارد تتغلغل بين صفوف المراهقين والشباب وتلقى المزيد من الاهتمام والانتشار،لاسيما في المناطق الشعبية المكتظة بالسكان . استطاع أصحاب هذه اللعبة إنشاء أماكن مناسبة لممارستها في كل مكان ، في الساحات الفارغة ، على ناصيات الأزقة  ، قريبا من أبواب المدارس ، فضلا عن الدكاكين المتواضعة التي استأجروها لهذه الغاية . تمتلئ كل هذه الأمكنة وتزدحم بالرواد طوال ساعات النهار وجزءا لا بأس به من الليل ، وتشهد جميعها ازدحاما واضحا وإقبالا شديدا . ويواصل محسن حديثه قائلا : لقد منعني والدي مرات عديدة من الحضور إلى هنا ، فهو يقول إن علي الاهتمام بدروسي أكثر ، وإن علي أن أقتني بالنقود التي يعطيني إياها أشياء مفيدة . لكني في الحقيقة لا استطيع مفارقة هذا المكان ، أنا مولع باللعب والتفرج  على أشواط اللعبة المتجددة بتجدد لاعبيها وظروف كل شوط منها .
- مهنة مربحة جدا
نحن نربح الكثير (خير من الله)، بهذه العبارة بدأ أحمد رحيم ( صاحب بليارد ) حديثه وواصله قائلا : يختلف سعر الشوط الواحد ( الكيم ) بين بليارد وآخر . تتراوح الاسعار بين 500 و750 و1000 دينار، وتشهد اللعبة زحاما شديدا طوال ساعات النهار وجزء لا بأس به من الليل. نفتتح اللعب من الساعة العاشرة صباحا وحتى العاشرة ليلا. يتجدد اللاعبون  والمتفرجون بين ساعة وأخرى، وهناك من يبقى منهم من أجل اللعب أو الفرجة طوال الوقت، بل إن البعض من هؤلاء لا يذهب حتى لتناول وجبة الغداء إلا بعد أن يأتيه أحد والديه أو أخوته الكبار غاضبا. ويبرر أحمد لجوءه إلى ممارسة هذه المهنة وفق منطقه الخاص قائلا : لم أجد مهنة مربحة مثل هذه ، فهي لا تحتاج إلى ( كاز أو بنزين ) ولا إلى أدوات احتياطية ، ولا إلى مكان خاص تتوفر فيه إمكانات أو ملحقات معينة . كل ما أفعله يوميا هو إخراج البليارد من منزلي والتوجه به إلى هذه الساحة بمعاونة بعض الأصدقاء لأبدأ العمل . لقد حاولت الحصول على عمل أو وظيفة أخرى ولم أستطع ذلك ، وبمساعدة بعض أقربائي وأصدقاء أعزاء اكتشفت هذه المهنة المربحة.
- أسرار أضافية
ويضيف لنا محمد صوفة (صاحب بليارد) أيضا معلومات أخرى عن هذه اللعبة: يتراوح سعر البليارد مابين 200 ألف دينار ومليون و500 ألف دينار تبعا لحجمه فهناك الكبير والمتوسط والصغير والصغير جدا، وتبعا لأناقته والمواد المصنوعة منه، فبليارد بأرضية من المرمر سيكون حتما أغلى من آخر صنعت أرضيته من خشب الصاج أوالخشب العادي. وينطبق هذا على نوع الكرات والعصي المستعملة في ضربها (الكيوبات).
وعن سبب ولع المراهقين والشباب باللعبة يقول محمد :  لا تحتاج اللعبة إلى مجهود فكري ، ولا إلى مساحة كبيرة مثل لعبة كرة القدم ، فثلاثة أمتار مكعبة تكفي لانشاء ملعب بليارد في الهواء الطلق . تسمح طبيعة اللعبة كذلك بوجود المتفرجين الذين يتحلقون حول البليارد لمشاهدة المباراة وتعلم قواعدها ليصبحوا لاعبين مستقبلا. والبليارد أصبح مكانا يأوي الشباب فيجد الواحد منهم الآخر ، لقد تحول إلى ملتقى لهم شبيها بالمقهى .
- لعبة ممتعة
حسن زيرو ، لاعب ماهر لا يغلبه أحد إلا نادرا ، تحدث بعدما أنهى شوطا فاز فيه بجدارة عن فنون اللعبة قائلا : بصراحة لقد خسرت أشواطا كثيرة جدا قبل أن أصبح لاعبا ممتازا ، لقد تعلمت شيئا فشيئا عبر ممارسة الخسارة الدائمة لأصبح لاعبا قويا يغلب الجميع.
وعن أساليب اللعب المميزة يقول حسن : فضلا عن الـ (صول) وهو الكرة الاساسية ، التي تضرب بها الكرات الأخرى ، هناك خمس عشرة كرة مرقمة من ( 1 إلى 15 ) ، وهناك ثلاثة أنواع شهيرة من اللعب أولها : العادي ، وفيه يقوم اللاعبون بإدخال الكرات في جيوب البليارد كيفما أتفق . بعدها يتم حساب أرقام الكرات المدخلة من قبل كل لاعب ، ومن كانت حصيلته أكثر يعد فائزا . وهناك اللعب المسمى ( تسلسل ) ويتم فيه إدخال الكرات حسب تسلسل أرقامها وهو أصعب من النوع الأول ، لأن الكرة المطلوب إدخالها قد تكون في موقع صعب ولا يسمح قانون اللعبة بإدخال غيرها . وثالث الأنواع يسمى (الأميركي)، وهو أصعبها جميعا ، ففيه تقسم الكرات إلى قسمين : الأول : هو السادة وتبدأ أرقامه من ( 1 إلى 7 ) ويكون  الواحد (صول ) لاعب المجموعة ، والقسم الثاني : هو المشجر وتبدأ أرقامه من ( 9 إلى 15 ) و( صول ) المجموعة هو ( صول ) البليارد الرئيس نفسه . وتترك الكرة رقم ( 8 ) حرة ولها قانونها الخاص ، إذ لايتم إدخالها من قبل أي لاعب إلا بعد أن يدخل كرات خصمه كلها ، أما إذا أدخلها صدفة فيعد خاسرا  . تقسم جيوب البليارد كذلك إلى قسمين لكل لاعب قسم خاص به . وترتكز قواعد اللعبة ومتعتها في قدرة اللاعب على إدخال كرات خصمه في الجيوب المخصصة لها ، والتركيز الشديد لكي لا يتم ارتكاب خطأ يؤدي إلى الخسارة .
- حسابات الأرباح والوقت المهدور
عن حسابات الأرباح والوقت المهدور يعود محمد صوفة متحدثا: يتراوح الوقت اللازم للعب شوط واحد (كيم) ما بين ربع وثلاثة أرباع الساعة. يختلف الوقت طبعا نتيجة اختلاف اللاعبين ونوع اللعبة ، اللعب الأميركي هو الأكثر استغراقا في الوقت يليه التسلسل ثم العادي . تلعب خبرة اللاعبين دورها في الموضوع أيضا ، فلاعبان مبتدئان

يحتاجان وقتا أكثر لإنهاء شوط، ينهيه البعض خلال ربع ساعة نتيجة الخبرة والممارسة والتباهي أمام المتفرجين .
وعن حصاد الأرباح يبتهج صوفة قائلا: نحن نربح لأننا لا نخسر شيئا ، ولا نعاني من توقفات الكهرباء مثلا أو الزحام المروري ولا نحتاج إلى قطع غيار أو مواد احتياطية. حمى المنافسة الشديدة وفضول الشباب يحقق لنا ذلك ، ونحبذ دائما اللعب الزوجي ، أثنين مقابل أثنين لأننا نحصل على ثمن مضاعف للشوط الواحد .
- حسابات الانحراف في السلوك
ولمدير أحدى المدارس الابتدائية رأي في الموضوع لكونه شاهد عيان على هذه الظاهرة . بمرارة حدثنا علي صبيح قائلا :
شاء الحظ أن تكون المدرسة التي أديرها محاطة بأكثر من ملعب صغير للبليارد . لقد منحني هذا الوضع على الرغم من سلبياته المزيد من الفهم لتراجع درجات بعض التلاميذ وإهمالهم وحتى سوء أخلاقهم . أنا أعرف الكثير من التلاميذ وأعرف عوائلهم معرفة شخصية لكوني من سكنة المنطقة نفسها . لقد تسنى لي مشاهدة الكثير منهم وهم يواصلون اللعب أو التفرج على لعبة البليارد . كان الكثير منهم من المجتهدين والحاصلين على درجات ممتازة في مختلف الدروس . لكن أكثرهم شهد تراجعا حادا في ذلك . أعتقد ، وبما لا يقبل الشك، إن ذلك ناتج عن انشغالهم بهذه اللعبة لدرجة فقد البعض منهم المواظبة على الدوام، كما إن بعض المعلمين والمعلمات وزملائهم أيضا بدأوا يسمعون منهم كلمات بذيئة لم يكن ينطقونها من قبل . لقد ازداد ولعهم بهذه اللعبة ولم يعودوا يستطيعون السيطرة على سلوكهم فهم يحبونها حبا أعمى إن صح القول.
قد يرى البعض إن ما أقوله يقع في باب تهويل الأمور وتحميلها ما لا تحتمل ، ولكنني مع ذلك أراها منزلقا وبادرة أولى للانحراف.