This site uses cookies for analytics and personalized content. By continuing to browse this site, you agree to this use.
We have updated our Privacy Notice, click here for more information Acknowledged

لتنمية الموارد البشرية واستثمارها الامثل..دور التعليم العالي في بلورة رؤية اقتصادية وطنية
18/03/2009

 


د. طالب عبد صالح* الصباح
ان الدور الذي تضطلع به الجامعات في تكوين رأس المال البشري وتنميته من خلال القيام بوظائفها التقليدية في تمكين اجيال متلاحقة من الطلبة الجامعيين من التزود بحصيلة معرفية وعلمية وبما يساعدهم على المساهمة في بناء وتطوير بلدهم في الميادين المختلفة  فان الدور المشار اليه انفا (اي المتمثل بتقديم الرؤى والافكار لمؤسسات ودوائر صنع القرار) لا يقل اهمية لاسيما اذا تعزز بدور تنويري او تثقيفي على مستوى المجتمع ككل بحيث يتجاوز اطار التعليم الجامعي التقليدي او برامج التعليم المستمر والدورات التدريبية للعاملين في دوائر الدولة ومؤسساتها.
ان المفهوم القديم لدور ومسؤوليات الجامعات يمكن وصفه بـ(السلبية) بمعنى ان الجامعات كانت تنتظر ان يتحرك المجتمع نحوها، في حين ان المفهوم الحديث لمسؤولية الجامعات يقوم على عدها قائدة في المجتمع وعليها ان تتحرك باتجاه تنويره وتوسيع دائرة معرفته والمساهمة في محو اميته ليس بمفهومها التقليدي (الابجدي) وانما بمفهومها الحضاري الحديث. وهنا يتعين على الجامعات ومراكز البحوث والدراسات ان تستثمر كل وسائل الاتصال المتاحة وابتكار وسائل وآليات اضافية للقيام بهذه المهمة.
الخطوط العريضة للرؤية الاقتصادية الوطنية ومتطلباتها
أ- بداية لابد من التأكيد على ان رؤية اقتصادية وطنية تفترض ضمنا عودة العراق بلدا مستقلا سيدا كامل السيادة على جميع مقدراته مالكا لقراره في تصريف شؤونه الداخلية والخارجية بما يتفق مع مصالحه الوطنية من دون اضرار بالمصالح والحقوق المشروعة للبلدان الاخرى من منظور الاعراف والقوانين الدولية.
كما ان هذه الرؤية لابد ان تستند الى التسليم بوحدة العراق ارضا وشعبا وحدة حقيقية تتضافر وتتكامل وتتفاعل في اطارها موارد العراق البشرية والمادية كتضافر وتكامل وتفاعل مكونات الجسد الانساني الحي الذي (اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
هذا الشرط في الوقت الذي يتعارض به مع توجهات معروفة لاضعاف وحدة البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا تحت بعض العناوين والشعارات من نوع الاقاليم والفيدراليات، فانه لا ينطلق من مجرد عاطفة وطنية على اهمية وجلال قدر مثل هذه العاطفة التي لا يعني غيابها او حتى مجرد ضعفها غير العقوق والجحود الذي لا يوازيه الا عقوق الوالدين وجحود فضلهما، ولكنه يستند الى اعتبارات عملية وواقعية من بينها:-
1- ان موارد العراق وثرواته المتنوعة موزعة بطريقة لا يمكن لأية منطقة من مناطقه ان تكتفي ذاتيا بما لديها من موارد وثروات لتحقيق اي تطور او تنمية اقتصادية واجتماعية ذات معنى، فما يفتقر اليه اهل العراق في الشمال يوجد في الجنوب بكميات وفيرة والعكس صحيح، وهو ما ينطبق على مناطق العراق الاخرى.
2- من بين ما يعرفه المبتدئون في دراسة علم الاقتصاد ان اتساع حجم السوق من بين اهم العوامل اللازمة لتأمين نجاح اي مشروع اقتصادي وتمكينه من العمل بكفاءة تحقق له تعظيم الارباح. وعلى ذلك فان وحدة العراق ارضا وشعبا ضرورة قصوى لتوسيع نطاق السوق امام اي مشروع اقتصادي صناعي او زراعي او خدمي، وعلى العكس من ذلك فان اية توجهات لتفتيت وحدة العراق من شأنها تفتيت السوق الوطني وتضييق نطاقه امام المشاريع الاقتصادية. وهنا نشير الى حقيقة باتت معروفة لأي مطلع على خلفيات ومسوغات نشأة التكتلات والكيانات الاقتصادية الكبرى في عالمنا المعاصر، هي انه بالاضافة الى الاعتبارات الاقتصادية المتمثلة بتحقيق التكامل بين الثروات والموارد الاقتصادية المتنوعة المتاحة للوحدات السياسية الداخلة في التكتلات الاقتصادية لاقامة مشاريع مشتركة وتوسيع نطاق السوق امام هذه المشاريع فان الاعتبارات او الغايات السياسية لم تكن غائبة عن تفكير مهندسي تلك التكتلات وهي الاعتبارات المتمثلة بصورة اساسية بمنع تجدد او نشوء صراعات او حروب بسبب بعض القضايا الخلافية (كالحدود) مثلا التي كانت تطبع علاقات بعض اطراف هذه التكتلات مثل العلاقة بين فرنسا والمانيا قبل اقامة صيغة للتكامل الاقتصادي فيما بينهما شكلت لاحقا نواة التكامل الاقتصادي الاوروبي.
 كما ان قيام مثل هذه التكتلات يعزز موقعها كتكتلات او مواقع البلدان الاعضاء فيها على الخارطة السياسية العالمية وبما يجعلها فاعلة ومؤثرة في صياغة المواقف الدولية.
وعلى ذلك نقول ان مما يمثل مفارقة بالغة الغرابة انه في الوقت الذي تتجه فيه البلدان المتجاورة او المتقاربة جغرافيا وفي بعض الاعتبارات الاخرى نحو اقامة التكتلات والكيانات او الفضاءات الاقتصادية الكبرى تظهر محاولات وتطرح مشاريع لدفع العراق الموحد للسير بالاتجاه المعاكس، اي من الدولة الواحدة الموحدة الى اصطناع كيان جديد مؤلف من اقاليم وفيدراليات ليس هناك ما يضمن ان تتبلور او تتعمق في داخلها نزعات الانعزال او الانفصال عن بعضها البعض وربما يتحقق ماهو اسوأ اي قيام صراعات وحروب فيما بينها لحسم قضايا خلافية على الحدود والموارد او غير ذلك من الاسباب بحيث تتكرر -لا سمح الله- تجربة الصومال او غير ذلك من تجارب تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ وصولا الى حالة دائمة من الصراعات والحروب الاهلية او الاقليمية لادامة اوضاع عدم الاستقرار بل الفوضى في اطار ما يعرف كذبا وتعسفا بـ(الفوضى الخلاقة) فاذا كانت الفوضى خلاقة فماذا عساه ان يكون النظام، هل يكون هداما؟!.
ب- مع التسليم بأنه لا يوجد من الناحية العملية وصفة جاهزة وتفصيلية لمعالجة مشكلات الاقتصادات المتخلفة او النامية ومنها الاقتصاد العراقي المزمنة والمستجدة ووضع تلك الاقتصادات على سكة النمو والانطلاق، غير ان التأمل بعمق في مختلف جوانب وأبعاد المشكلات المذكورة بالاضافة الى استحضار الدروس والخبرات التي افرزتها تجارب البلدان التي تبنت وصفة الصندوق والبنك الدوليين والمستمدة من الفكر الاقتصادي الليبرالي الجديد والمتمحورة حول اقتصاد السوق يقود الى الاستنتاج بضرورة اعتماد ستراتيجية للتنمية بقيادة الدولة كخيار بديل لما يدعو له صندوق النقد والبنك الدوليين، ستراتيجية يحكمها منظور الاجل الطويل وقابلة للترجمة الى خطط وسياسات للمدى القصير والمتوسط تتمحور حول البشر (الناس) غاية ووسيلة وتنطلق من اعتبار قضية الخلاص من اوضاع التخلف والتحرر من قيود التبعية الاقتصادية بمثابة معركة من اجل البقاء، وان جبهة هذه المعركة من الاتساع بحيث تستوعب امكانات وطاقات القطاعين العام والخاص وبتقسيم للعمل وميادين النشاط الاقتصادي بينهما وفق معيار الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وفي جو من الشفافية المستندة الى ضمان حق المجتمع في الحصول على المعلومات المتعلقة بالاداء الاقتصادي لكل من القطاعين الخاص والعام كشرط لازم لتحقيق رقابة شعبية حقيقية عليهما.
ج- ينبغي النظر الى عملية التنمية باعتبارها عملية نهوض حضاري وتغيير شامل وعميق تستهدف احداث تحولات هيكلية في بنية الاقتصاد والدولة والمجتمع بكل ما تشتمل عليه هذه الاطراف الثلاثة من مؤسسات وممارسات وانماط ثقافية وقيمية. وطبقا لهذا التوصيف فان التنمية المنشودة هي:-
- عملية شاملة ومستدامة.
- عملية مجتمعية يشارك فيها كل افراد المجتمع.
- عملية موجهة ومخططة ومحكومة بقواعد ومعايير تحظى بأوسع توافق شعبي.
- تحقق التوازن بين الريف والحضر، بين الجوانب والمتطلبات الاقتصادية والاجتماعية، بين الحاضر والمستقبل، بين متطلبات النمو وسلامة البيئة.
ان ضمان عنصر الاستدامة لا يمكن ان يتحقق الا بتنمية رأس المال البشري المؤهل للمشاركة في صياغة خطط وبرامج التنمية وتنفيذها بالاضافة الى القيام بمراقبة الاداء التنموي وصيانة المنجزات التنموية. انها باختصار:
تنمية الناس: الاستثمار في القدرات البشرية.
تنمية للناس: التوزيع العادل لثمار التنمية.
تنمية بالناس: اتاحة اوسع الفرص والخيارات للمشاركة الشعبية.
الحكم الصالح
ان اية رؤية اقتصادية مهما بلغت درجة جودتها ونضجها تبقى عديمة الجدوى والفاعلية ما لم يتوفر لها اطار سياسي واجتماعي ومؤسسي ملائم.
يحشد لها موارد وجهود وامكانات المجتمع ويبتكر لها من الوسائل والآليات ما يساعد على تنفيذها بكفاءة وفاعلية وفي تقديرنا ان افضل اطار سياسي مؤهل للقيام بهذه المهمة، هو ذلك المتمثل بـ(الحكم الصالح).
ان اقامة حكم صالح هدف واقعي فضلا عن كونه ضروري، فهو ممكن من الناحية النظرية والعملية. فالتاريخ الانساني عرف انماطا من الحكم الصالح من حيث عناصره ومتطلباته الاساسية وان لم يكن مستوفيا لجميع الشروط التي يقتضيها المفهوم المعاصر للحكم الصالح. كما ان هناك نماذج معاصرة للحكم الصالح اقترنت بمؤشرات جيدة للاداء الاقتصادي مع مستويات متدنية من الفساد المالي والاداري. وقد يكون من المناسب ضمن هذا السياق الاشارة الى ما يأتي:-
* الحكم الصالح ليس مركبا كيمياويا يمكن تصنيعه او تحضيره عبر خلطة او (توليفة) من عناصر او عوامل تحدد مقاديرها وخصائصها بصرامة (رياضية) وانضباط علمي، ويمكن الحصول عليه جاهزا ضمن سقف زمني محدد وفي ظل ظروف يمكن التحكم بها على غرار ما يحصل في مختبرات التجارب العلمية، ولكنه -اي الحكم الصالح- (منتج) اجتماعي وانساني يتبلور ويتكامل ويتطور في اطار عملية وسيرورة تاريخية وضمن سياق اجتماعي وثقافي لا يقفز على الخصوصيات المحلية للمجتمعات الانسانية المختلفة او يتجاهلها وفي الوقت نفسه لا يقدح في صلاحه او جودته استفادته من اي ابداع انساني على صعيد الفكر والتجربة من شأنه التطوير المستمر لادارة شؤون الناس والدولة.
*ارتباطا بما تقدم لا ينبغي استسهال تقديم الوصفات الجاهزة لقطع المسافة المؤدية الى اقامة الحكم الصالح بالقول ان الديمقراطية هي الحل، كما لو كان للديمقراطية بحد ذاتها قدرات (مصباح علاء الدين السحري) في قصص الف ليلة وليلة حيث لا يستعصي او يستحيل معه اي شيء.
 فمفهوم الحكم الصالح اوسع وأسمى من مفهوم الديمقراطية التي سمحت لأحزاب عنصرية ولزعماء طغاة بالصعود الى سدة السلطة والحكم كما حصل في تاريخ اوروبا الحديث ولم تمنع حكومات وادارات بلدان سباقة وعريقة في تطبيقها من شن اكثر الحروب وحشية ودموية ضد بلدان اخرى، ولم تحـم اقليات او مجموعات اثنية من التعرض لأشكال متعددة من التعدي على حرياتها الاساسية وحقوقها الانسانية، ناهيك عن اقترانها بصور وانواع شتى من الفساد.
وفي الوقت نفسه لا يجوز التيئيس من امكانية الوصول الى حكم صالح بالاشارة الى سجل مرير من التجارب والمحاولات الانسانية الفاشلة على هذا الصعيد مع التجاهل لصفحات مشرقة لنجاحات انسانية على الصعيد نفسه.
شروط ومتطلبات اساسية
وببساطة بعيدة عن التبسيط المخّل نقول ان الحكم الصالح هو نموذج لنسق متكامل من آليات وعمليات ومعايير وقيم يهدف للوصول الى افضل ادارة ممكنة للدولة والمجتمع بما يعزز فرص تطبيق الرؤية الاقتصادية الوطنية وصولا الى تحقيق تنمية بشرية مستدامة، وان ثمة شروط ومتطلبات اساسية تشكل قواعد وأعمدة اي بناء للنموذج المذكور واعداً بالتحسن والتطور عبر الزمن، لعل من بين اهمها ما يأتي:-
*صياغة اطار دستوري وقانوني يحكم على نحو دقيق وشامل انشطة الدولة والمجتمع، ويعكس اقصى درجة ممكنة من التوافق بين افراد المجتمع ويتضمن من القواعد والآليات ما يكفي لصيانة حقوق وحريات وكرامة المواطنين، ويكفل التداول السلمي للسلطة والفصل بين السلطات ومنع احتكار القرار والتوزيع العادل والمتوازن للثروات والدخول بين مناطق البلد وفئات وافراد المجتمع.
*اقامة نظام قضائي كفء بمتطلبات ومؤهلات وامكانيات تحصنه ضد الفساد وتجعله قادرا على تفعيل واعمال مبدأ سيادة القانون، وبما يضمن بالتكامل مع ادوار ووظائف المؤسسات والاجهزة الاخرى تطبيق معياري المساءلة والمحاسبة على جميع المسؤولين بصرف النظر عن مستوياتهم والقطاعات والمواقع المسؤولين عنها، وتطبيق المساواة وتكافؤ الفرص بين جميع افراد المجتمع.
*انشاء جهاز كفء للرقابة وتقنين ذلك دستوريا وتمكين الجهاز عبر توفير الضمانات القانونية له ومدّه بالمتطلبات البشرية المؤهلة والمادية الضرورية من تعقب كل حالات وأوضاع الفساد والاعلان عنها بعد التحقق من وقوعها وابلاغها الى الجهات المختصة للتعامل معها وفق القواعد القانونية المقررة.
*بناء المؤسسات العسكرية والامنية على اسس من الاحترام الصارم للقواعد الدستورية والقانونية والتطبيق الدقيق لمبادئ الانضباط العسكري واخضاع الترقيات واسناد المسؤوليات لقواعد ومعايير مقننة وواضحة واشاعة وتعميق الالتزام بمبادئ العدل والمســاواة في العلاقات بين الاعلى والادنى، وتربية وتثقيف منتسبي هذه المؤسسات على التمسك بقيم النزاهة والامانة ونظافة اليد.
* تقنين حق المواطن في الحصول على المعلومات ووضع الآليات المناسبة لتمكينه من ممارسة هذا الحق. واذا كان ثمة استثناء فينبغي ان يكون محدداً بطريقة صارمة وفي اضيق نطاق مع تمكين اجهزة الرقابة المختصة (برلمانية، ادارية، قضائية) من متابعة وتدقيق ما يتصل بهذا الاستثناء من قرارات او اجراءات لكي لا تكون اعتبارات الامن الوطني والمصالح العليا للبلاد غطاء للافلات من المساءلة والمحاسبة.
* بناء نظام تربوي وتعليمي مؤهل لتخريج افراد مدركين لمسؤولياتهم وواجباتهم من ناحية ومستوعبين لحقوقهم وقادرين على ممارستها من ناحية ثانية، ومؤمنين بالافكار والقيم التي تعلي من الامانة والنزاهة وحرمة المال العام.