(العراق بلد غني).. هذه حقيقة بمعياري: الجغرافيا الطبيعية.. والجغرافيا البشرية.. بمعنى أن العراق بلد غني بطاقاته النفطية والمائية والزراعية وبطاقته البشرية المؤهلة.. ومن النادر أن تجتمع هذه الخصائص والعناصر في بلد ثم لا يكون (غنياً) أو موفور العافية الحضرية في هذه المجالات. فليست التنمية أو النهضة إلا حصيلة كلية لهذه الطاقات المادية والبشرية.
ولكن من سوء حظ العراقيين: أنهم حرموا من التمتع بهذه الثروات والموارد والإمكانات عقوداً طويلة.
والسبب معروف غير مجهول، وهو سبب (مركب) غير مفرد ولا بسيط:
1 ـ سبب (بلاء الاشتراكية) ـ بمفهومها الطوباوي الغوغائي ـ أي الاشتراكية التي تلخصت في (احتكار الدولة للثروة) بدعوى إعادة توزيعها على نحو عادل.. في حين أن هذه الثروة أختطفت من الأمة، وظلت في يد المختطفين، فلم تعد إلى الشعب: لا في صورة عادلة، ولا في صورة عدالة مشوبة بشيء من الظلم!
2 ـ سبب الإنفاق العسكري الضخم المسرف الذي استنزف الثروات والموارد وحولها من (غذاء ضروري صحي للقتدم المدني) إلى ترسانات عسكرية تتراكم عاما بعد عام بلا (هدف معتبر وواضح ومحدد).
3 ـ سبب الحروب النزقة التي التهمت كل شيء، وأغرقت العراق في ديون مهلكة.. وهي حروب نشأ عنها: تدهور البنى التحتية للخدمات الأساسية الضرورية، وشح بالغ في مصادر المعايش.
4 ـ سبب الحصار الذي لم يؤثر في القيادة المقصودة بالحصار، وإنما امتد ـ فحسب ـ بآثاره المدمرة إلى الشعب العراقي فجوع الشعب، وأصاب مئات الألوف من أطفاله بالحرمان من الغذاء، أو بسوء التغذية، كما أصابهم بالأمراض والأوبئة والوفيات.
5 ـ ثم جاء الاحتلال فعمم المأساة، وزاد الكرب، وأحكم البلاء.
أ ـ هدم الاحتلال البقية الباقية من بنى الخدمات الأساسية.
ب ـ عطل الحياة والحركة العامة في العراق حيث اختل الأمن واضطرب في كل مكان. وبديه أنه يتعذر العمل والإنتاج والسعي للمعايش في ظل الرعب المتفشي السائد.
جـ ـ قُلب شعار (إعادة إعمار العراق) ونكّس تنكيسا شديدا حتى أصبح (إعادة تخريب العراق)، وذلك عن طريق الفساد الواسع الغليظ في أموال إعادة الإعمار، سواء كان هذا الفساد (وطنيا)، أي على يد نفر من أبناء البلد، منهم من ينادى بمحاكمته الآن، أو كان فسادا على يد المحتل الذي ادعى أنه جاء لـ (يصلح ما فسد).. أولم يأتكم نبأ (بريمر) وما فعله بأموال إعادة إعمار العراق؟!
هذه البلايا المركبة المتتابعة جعلت البلد الغني (حكما): فقيرا (حقيقة وواقعا).
ومما زاد الكرب والبلاء ووسع نطاق الفقر والحاجة: أن الاحتلال عمد الى تدمير مدن وقرى عراقية حيث دمر المنازل والمدارس والمتاجر وقتل الألوف وشرد عشرات وشرد الألوف في أكثر من منطقة.
وإذا كان الشخص العراقي العادي الذي لم يتعرض لفتك وهدم وتشريد لا يستطيع أن يحصل على ما يقيته وعياله من القوت، ولا يحصل على الخدمات الضرورية، فكيف هي حال المشردين الهائمين على وجوههم في كل فج وناحية: الذين فقدوا المأوى واللباس والخبز والدواء، ولا سيما في هذه الظروف المناخية العصيبة التي تشتد فيها وطأة البرد على من لديهم أغطية ومدافئ، فكيف هي شدتها على من لا مأوى له ولا غطاء ولا حساء ساخن يدفئ جوفه إذا عزّت تدفئة الإهاب الخارجي؟
إن هذا الوضع المحرج المخزن الكئيب يوجب (النظرة الجادة العاجلة الى الجانب الانساني في المسألة العراقية): النظرة الانسانية الجادة العاجلة من أهل الاقليم والمحيط بخاصة.
يتعين تكوين هيئات ولجان شعبية في كل قطر من الأقطار المحيطة ـ بوجه خاص من اجل جمع التبرعات المالية والعينية لمساعدة وإعانة منكوبي العراق: المحدثين منهم والاقدمين.
ولتكن الحكومات (حاضرة) في هذا العمل الخيري الانساني: حاضرة بالإشراف والرقابة الدقيقة القوية، بشرط ألا تتحول هذه الرقابة الى (ذريعة منع للخير).
ولتعلم الحكومات أن (منع الخير) جريمة كبرى في حق الانسان المحتاج: جريمة غلّظ القرآن العقوبة عليها أيما تغليظ.
1 ـ فهي جريمة مقترنة بأرذل الأخلاق، مقترنة بالأثم والعدوان: «ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم.
2 ـ وهي جريمة مرتبطة بعدم الايمان بالدار الآخرة: «أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين».
3 ـ وهي جريمة محفوفة بسوء العاقبة والمصير:
أ ـ «ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين».
ب ـ «ألقيا في جهنم كل كفار عنيد مناع للخير معتد مريب».
ولا يجوز ولا يحل ـ قط ـ أن يكون (الخوف) من تسرب بعض العون الى الارهابيين سببا في (منع الخير) عن المحتاجين، وإلا فإن الارهاب بهذه الاستجابة المطلقة للخوف المطلق يكون قد (انتصر) انتصارا ساحقا من خلال اثبات قدرته الفائقة على (منع الخير) عن المحتاجين إليه!
وبتعميم هذا التفكير الخاطئ تصبح الحياة (شللا) تاما.
لنتصور هول الكارثة اذا امتدت هذه المخاوف، وامتدت قدرة الارهابيين على التأثير: في المجالات الأخرى للحياة.
لنتصور: تعطل الحياة والحركة في الطيران والمدارس والاسواق والشركات والبنوك والمستشفيات تحت ضغط الخوف والرعب من الارهاب والارهابيين.. فما من مجال من هذه المجالات الا هو معرض لعمل ارهابي يتسلل إليه من هذه الثغرة أو تلك.
والحل العملي الناقض لهذا التصور الخائف المعطل هو: التصميم المطلق على استمرار الحياة في كل حقل وميدان: تصميما مقترنا بـ (التفنن) في التدابير التي توصد كل ثغرة ـ ولو في حجم سم الخياط ـ يمكن ان يتسلل منها الارهابيون.
وليكن الموقف من العمل الخيري الانساني ضمن هذا الحل العملي المباشر في ممارسة الحياة اليومية.
والمعادلة العملية هي:
أ ـ تدفق العمل الخيري الانساني بأعلى معدلاته في كل وقت.
ب ـ التفنن في التدابير المحصنة له من كل اختراق واستغلال في الوقت نفسه.
ومما يزيل المخاوف (من العمل الخيري) أو يحد منها:
أولا: ان هناك (تهويلات) اعلامية مفتعلة احطات بالعمل الخيري: تهويلات جعلته وكأنه منبع البلاء، وأهل الكارثة. وان حياة الناس لن تستقيم، ولن تهنأ الا بردم منابعه ردما لا قيام له بعده.. وهذا التهويل صادر: اما عن جهل بحقيقة الأمر.. واما عن نفوس (منّاعة للخير) يزعجها ان تتدفق الخيرات على ساحة الكوكب: تنقذ المحتاج، وتغيث اللهفان.
وبتجريد العمل الخيري من هذه التهويلات المفتعلة يتمخض المجال للنقد الموضوعي الذي يستبقي الصواب وينتقد الخطأ ويدمدم عليه.
ثانيا: ان تهما كثيرة الصقت بالعمل الخيري ـ ولا سيما في الولايات المتحدة الاميركية ـ تتساقط اليوم: تهمة بعد تهمة، لتهافت الادلة او عدم وجودها وهذان عاملان خليقان بأن يحررا من الخوف اقواما خافوا اكثر مما ينبغي من مباشرة عمل هو من اعظم الاعمال وانبلها واكثرها نفعا لبني الانسان وهو العمل الخيري الانساني.
يضم الى ذلك: (مشروعية دولية) للعمل الخيري والانساني. ففي وثائق الامم المتحدة نصوص واضحة تحفز على العمل التطوعي الخيري في كل حين وفي ازمنة الكوارث على وجه التخصيص. على سبيل المثال: اتخذت الامم المتحدة قرارا ينص على «تقديم المساعدة الانسانية بقدر المستطاع الى الذين هم في حاجة اليها».
ان المشروعية متوافرة.
وان الحاجة قائمة.
وهما مشروعية وحاجة توجبان تقديم العون الناجز ـ بكل صوره ـ الى من عضتهم المسغبة من ابناء الشعب العراقي. فلينعقد (العزم الخّير) على ذلك: الآن.. الآن.. قبل الغد. فالأمر لا يحتمل التأجيل ولا التردد.. والله جل ثناؤه يمتدح المسارعين في الخيرات ويشهد لهم بالصلاح: «ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين».
وما تقدم يتعزز ـ كله ـ بروابط قوية عميقة تربط بين الشعب العراقي وبين شعوب المنطقة: الرابطة الانسانية العامة.. ورابطة الايمان بالله.. ورابطة النسب والرحم.. ورابطة الجوار وهي كلها روابط تفقد (قيمتها العملية) اذا تخلى من حول العراق عن واجبهم الانساني تجاه اخوانهم العراقيين.
فاكرموا عزيز او غني قوم: ذل او افتقر.
وينبغي ان تعلم الاجيال الجديدة: ان العراق كان اعظم مركز لنشوء وتطور المؤسسات الخيرية المتنوعة التي تتدفق خيرا وبرا واحسانا وعطاء في صور ندر وجودها في عصرنا هذا نفسه.
ففي العراق تأصلت وارتقت مؤسسات الوقف الخيري التي كان من صورها ـ مثلا ـ: كفالة القطط العمياء.. واعانة العميان والمقعدين بمن يقودهم ويعينهم على الحركة.. وتقديم الطعام للمريض في (آنية) لا تمسها يد مريض آخر قبله!!.. والبحث اليومي عن (المحتاجين المتعففين) من اجل توصيل العون لهم في ستر وتحت جنح الظلام محافظة على كرامتهم واعتبارهم الاجتماعي.
هذا الشعب العريق خليق بأن يعان اليوم حتى يتمكن من استئناف مسيرته الحضارية ويجود بعطائه الراقي.