شمخي جبر- الصباح
يعد مفهوم التمويل من اخطر القضايا حساسية والتي تطرح على الساحة على مستويات عدة ،اذ عدتها بعض الدول بوابة من بوابات التدخل الخارجي ، وقد حمل هذا المصطلح العديد من التأويلات وتوجيه أصابع الاتهام لمجرد الحديث عنه
وليس بعيدا عن الأذهان ما دار في مصر حول من يمول مركز ابن خلدون الذي يديره الناشط في مجال المجتمع المدني الدكتور سعد الدين إبراهيم الذي تم اعتقاله في العام (2000)، وكيف جرت محاكمته وبعض الباحثين من مركز ابن خلدون ومن ثم البراءة للجميع، ونوقشت في مجلس الشعب المصري ضرورة إصدار قرار يمنع الدعم الخارجي لمنظمات المجتمع المدني.وأثيرت أزمة سياسية بين الولايات المتحدة وروسيا لأن مجلس الدوما في روسيا أصدر قرارا يمنع بموجبه الدعم الخارجي لمنظمات المجتمع المدني في روسيا
وكثيرا مايقال ان هناك منظمات حصلت على تمويل مشروط يخل باستقلاليتها فأصبحت رهن أيدي وإرادات الممولين تنفذ توجهاتهم وأجنداتهم السياسية ، وهذا ما أثار ويثير الشكوك في مصادر تمويل بعض المنظمات ، وأصبحت بعض هذه المنظمات أداة تحركها القوى الأجنبية ، وكان لها اثر سلبي كبير على الحياة الديمقراطية والثقافة المدنية لأنها تعمل بالضد من ثقافة الحوار والسلم الاجتماعي وتشجيعها على الكراهية والإقصاء والعنف ..فأنشطة المجتمع المدني أنشطة طوعية تختلف من هذه الناحية اختلافا جوهريا عن أنشطة الحكومات، كما إنها تختلف عن الأنشطة الاقتصادية والمالية المتعلقة بأخلاقيات السوق لأنها تبحث وراء الخير والصالح العام وليس وراء الربح المادي، ولذا فكثيرا ما يشار إلى المجتمع المدني بأنه (القطاع الثالث )لتمييزه عن القطاع العام الذي تمتلكه الدولة والقطاع الثاني هو القطاع الخاص الذي يمتلكه الأفراد.وينظر بعض الباحثين للتمويل بأنه عامل من عوامل التدخل السياسي الذي يحمل معه آثارا كبيرة على المستويين الاجتماعي والثقافي للدول المتلقية للتمويل، إذ يوظف الدعم الدولي الموجه للحكومات عامة ولمنظمات المجتمع المدني بشكل خاص لأهداف سياسية تحقق مصلحة الجهات الداعمة لدى الجهات المتلقية. وذلك من خلال ممارسة التأثير الثقافي والسياسي على الأخر والعمل على أن تسود ثقافة وقيم الممول على تلك الخاصة بالمتلقي.. ومن الطبيعي أن تتحدد ملامح وطبيعة علاقة الجهات الداعمة بالجهات المتلقية بالقاعدة التي تقول " من يملك المال يملك القرار. فمن السذاجة أن نتصور أن مثل هذه العلاقة تقوم على حسن النوايا والمشاعر الإنسانية البريئة فقط. لكن من الخطأ أيضا النظر إلى جميع مصادر التمويل بنفس منظور التشكيك والاتهام. وليس من المنطقي أيضا وضع جميع منظمات المجتمع المدني وبرامجها تحت دائرة التشكيك.
الهيمنة والاحتواء السياسي
العلاقة بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني القاعدة الأساسية لعمل منظمات المجتمع المدني هي الاستقلالية فان أي تدخل من قبل المؤسسات الحكومية أو الأحزاب السياسية ما هي إلا بمثابة تشويه سمعة هذه المنظمات وبالتالي إفساد عملها وتغيير مسارها المستقل لاستغلالها أما لمصالح حزبية ضيقة وأما لدعم سياسة الحكومة، وإن كانت جائرة.ويعتقد البعض ان منظمات المجتمع المدني يجب ان لا تتلقى دعما من الدولة ومؤسساتها ولكن بعيدا عن التدخل ومع محافظة هذه المنظمات على استقلاليتها اذ يقال ترتكب المنظمات أكبر خطأ حينما تطالب الحكومات بالدعم المادي اذا كان بوابة للتدخل ، وبعض هذه المنظمات المدنية تلتجئ لمؤسسات حكومية ذات علاقة بمجال عملها مع المنظمة وترتبط بصورة مباشرة أو غير مباشرة من أجل الحصول على دعم مادي وعندها تفقد مصداقيتها الاستقلالية في العمل والرقابةفتلجأ بعض هذه المنظمات الى الاعتماد على جمع التبرعات من الأعضاء أو دعم مادي من أصحاب رؤوس الأموال.
وبعد التغيير في العراق (2003 ) خصصت موارد لبناء وتطوير منظمات المجتمع المدني في العراق. حيث خصص برايمر 70 مليون دولار لتنمية المنظمات المدنية العراقية، لكن أفراداً يعدون بالأصابع سيطروا على مبالغ ضخمة منها، اذ تهدر الأموال ولا يصل للمنظمات إلا القليل أو في بعض الأحيان تعتمد بعض الجهات المانحة على العلاقات الخاصة والجانبية والنفعية وتهميش كثير من المنظمات الفاعلة.ان الدولة لابد ان تتدخل في عمل منظمات المجتمع المدني الذي لابد أن تتوفر فيه الشفافية والمساءلة ومعرفة مصادر التمويل وماهي مصادرها ومنافذ صرفها، فنحن نعلم ان هناك بعض المنظمات التي تساند وتقدم دعماً لجهات تمارس العنف وقد يكون هذا الدعم ثقافياً وإعلامياً يتم من خلاله تبرير هذه الأعمال. وبما ان العراق دولة غنية تمتلك الكثير من الموارد فلابد أن تخصص (اي الدولة) جزءاً من هذه الموارد لدعم منظمات المجتمع المدني حتى تنقذ هذه المنظمات من شروط الممولين وتدخلاتهم في الشأن الداخلي، فكان لفقدان الكثير من منظمات المجتمع المدني لمصادر التمويل الأثر الواسع على عملها لان الدولة لم تتدخل في هذا الجانب وان تدخلت فكان تدخلها غير داعم لمنظمات المجتمع المدني ، بل كان معرقلا لعملها ، وخصوصا العمل الذي قامت به في حجز أرصدة بعض منظمات المجتمع المدني، اذ يرى البعض ان تدخل الدولة سلاح ذو حدين ففي الوقت الذي يدعون فيه الى تدخلها فان هذا التدخل لابد ان يكون ايجابيا.
الفساد
ان معظم منظمات المجتمع المدني تعتمد في تمويل انشطتها على تبرعات ومساهمات الاعضاء، اذ تعد جهات غير ربحية، وقد تخصص الدولة بعض الدعم لهذه المنظمات ،الا ان الدولة من جانب آخر تفرض نوعاً من الرقابة على هذه المؤسسات، بل وتفرض عليها بعض الضرائب من خلال مراجعة ميزانيتها وسجلاتها وحساباتها، اذ لابد ان ينظم الميزانية مراقب حسابات معترف به ومسجل لدى الدولة، وتستطيع الدولة ان تثبت معيارا ما كي تميز بين المنظمات الجادة عن المنظمات الوهمية. وبقدر تعلق الامر بمنظمات المجتمع المدني في العراق، فهي حالها حال كل مرافق الدولة والحكومة التي شهدت الكثير من الفساد المالي ولم يكن الأمر مقتصرا على منظمات المجتمع المدني، وهذا لا يعني التعميم، اذ هناك الكثير من منظمات المجتمع المدني الفاعلة والتي كانت مثالا للنزاهة.فالمفروض بمنظمات المجتمع المدني ان لاتتاثر بارادات الممولين وتوجهاتهم فتتحول الى اداة بيد هؤلاء فتفقد اهم اركانها الاستقلالية ،فضلا عن موقف الدولة التي لابد ان تتخذ موقفا ايجابيا من هذه المنظمات، لانها رديفها ومؤازرها المؤثر الفاعل في الاستقرار وتوفير السلم الاجتماعي .
في التجربة العراقية التي بدأت في هذا المجال بعد 2003 والتي رافقتها الكثير من السلبيات لحداثة التجربة في هذا المجال ولدخول بعض الطارئين على هذا الموضوع ، والذين سعوا الى ان تتحول هذه المنظمات الى وسائل للكسب غير المشروع ، نستطيع ان نقول ان هناك منظمات حصلت على تمويل ودعم من بعض الجهات إلا إنها لم تقدم شيئا معلوما في اتجاه الأهداف التي حصلت بموجبها على التمويل. كانت شخصنة المنصب داخل المنظمة اذ لعب هؤلاء الأفراد دور الإبطال في الفضاء الاجتماعي مستغلين علاقتهم بالممولين او بعض الشخصيات النافذة في النخب السياسية، فكانت عملية انحراف كبيرة لبعض المنظمات عن أهدافها لصالح أفراد بعينهم حين تدخل الأموال في جيوبهم نتيجة لغياب آليات المساءلة والشفافية في عمل بعض المنظمات. فالتمويل الذي جاء من الخارج لدعم وتمويل منظمات المجتمع فانه في الكثير من الأحيان ذهب الى منظمات وهمية فحرمت منه بعض المنظمات الفاعلة بشكل حقيقي ، ما اثر سلبا على عمل المجتمع المدني وزاد من النظرة السلبية لعمله، فبقيت المنظمات المدنية الحقيقية بعيدة عن مصادر التمويل معتمدة على نفسها ، وجعلها هذا الأمر ضعيفة أمام متطلبات العمل ومن ثم قاصرة في السعي لتحقيق أهدافها ، وعانت من هذا الأمر الكثير من المنظمات وخصوصا تلك التي عليها مواجهة متطلبات عملها كإقامة الندوات والحلقات النقاشية او إصدار مطبوعاتها كالنشرات والمجلات والصحف.ان الوجود الكبير لمنظمات المجتمع المدني كان في بعض الاحيان وجودا غير حقيقي لانه ارتبط بأهداف لاعلاقة لها بعمل منظمات المجتمع المدني، بل ارتبط بظاهرة الفساد الاداري والمالي، وتحقيق المكاسب المادية للبعض،ولهذا نرى اختفاء وانحسار وجود الكثير منها، فهم حين ذهبت الجهات المانحة ذهبوا معها اذ هم موجودون حيث توجد المنح ويوجد التمويل. ولاننا نعلم ان اهم شروط وجود منظمات المجتمع المدني شرط الطوعية،لان العمل في منظمات المجتمع المدني طوعي ،الا ان هذه المنظمات لم تبدأ بداية صحيحة، لهذا اختفت الكثير منها من الساحة.
التمويل والتدخل الإقليمي
ولا يغيب عن الأذهان ما تفعله بعض الاحزاب من خلال عملية الاحتواء لبعض المنظمات مستغلة حاجتها للتمويل فأفقدت هذه المنظمات استقلاليتها ومن ثم تبعيتها لهذه الأحزاب ، فضلا عن التدخلات الإقليمية التي عملت في مجال المجتمع المدني وبالاتجاه المعاكس ، اذ قدمت دعما لبعض المنظمات التي تعمل بالضد من ثقافة المجتمع المدني لأنها تعمل على معزوفات طائفية او عرقية تصعد من التخندق الفئوي ، بل تمارس التأسيس لثقافة العنف ، من خلال وسائل إعلام او مراكز بحوث او تنظيم ندوات.
وفي الجانب الآخر هناك بعض المنظمات التي حصلت على تمويل مشروط يخل باستقلاليتها فأصبحت رهن أيدي وإرادات الممولين تنفذ توجهاتهم وأجنداتهم السياسية ، وهذا ما أثار ويثير الشكوك في مصادر تمويل بعض المنظمات ، وأصبحت بعض هذه المنظمات أداة تحركها القوى الأجنبية ، وكان لها اثر سلبي كبير على الحياة الديمقراطية والثقافة المدنية لأنها تعمل بالضد مـن ثقافة الحوار والسلم الاجتماعي وتشجيعهـا علـى الكراهيـة والإقصاء والعنف.